مدينة الموسيقى

(بتايا) التايلاندية، هي مدينة الموسيقى الصاخبة من صبحها إلى صبحها، لا تتوقف، كأنها عزف الأمطار الموسمية… أما وقد أقلعت السماء، وغيضت الأرض، فما غير أمطار الموسيقى، لا تعرف موسماً، حتى أن الناس ينامون على صدحها، وهي تصم آذان المدينة، فإذا ما خفّت إذا أخذت أنفاسها قليلاً، وجدت الناس يفيقون، كراكب القطار، ينام على ضجيج عجلاته ويصحو على توقفه في المحطات، وذلك من عجائب التكيّف على غير العادة، ومقتضيات الطبيعة والجبلّة. وقد وهبها الله للإنسان زلالاً بلالاً حتى لا ينقرض كالديناصورات إذا ما خسفت البيئة، او ألم به ما يكره مما يحيق عادة بالبشر في كرّهم وفرّهم بين الميلاد والميعاد.

(بتايا) مدينة شاطئية كاسية عارية، وإن شئت الدقة أكثر – وأنت تحب ذلك لا شك – فإنها عارية شبه كاسية، كأنما تتفضل على العري بما يجعله أبهى عرياً، لأنه حتى الكلاب تسبغ على عوراتها من أذنابها، ورائدها في ذلك الملك الضليل (امرؤ القيس بن حجر الكندي) الذي وصفه (المعري) بأنه مقدم والقائد لركب الشعراء الوافدين على النار، والقائل:

إذا ما بكى من تحتها انصرفت له
بشق   وتحتي  شقها  لم  iiيحول

هكذا هي (بتايا) مدينة ملتبسة، معلقة، لا متزوجة ولا مطلقة، كل أسمائها مجازية، فلا نهارها نهار الناس، ولا ليلها سمير الجلاّس، ولا شتاؤها شتاء، لأنك تحتاج فيه إلى المكيّف، ولا صيفها صيفاً، لأن الأمطار تغسله فيستحيل ربيعاً، لا تحتاج معه إلى التكييف، وإنما هي شيء من كل شيء، تجمع النقائض وتتعايش فيها الأجناس، ويحجّ إليها السياح من كل فج عميق، فترى بين كل مقصف ومقصف عشرة مقاصف، ومقابل كل سائح خمسين أو أكثر من بنات وأبناء (تايلاند)، يقومون بأودهم، ويسهرون على راحتهم، وكله في موازين الثواب والعقاب، محسوب بالقسطاس المستقيم. وتراهم في سديم الليل وقصف الموسيقى سكارى وما هم بسكارى، كأنهم خشبٌ مسندة ينشدون:

وأحبها     iiوتحبني
ويحب ناقتها بعيري

والله ما لنا في الأمر من ناقة ولا جمل، وناقل الكفر ليس بكافر:

وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً
وآفته   من  الفهم  السقيم

أنا شخصياً قد أسيح في أرض الله، وأرى أن الإنصاف أحرى بي وأقرب إلى جبلّتي، وألصق بآدميتي، ولكم رأيت في هذه الأرض من المستضعفين العاملين بعرقهم في أرزاقهم، وليس منهم إلا من ندر، والنادر لا حكم له، من يمد يده أو يستعطيك، أما إذا أعطاك أو أشفق عليك، وقد لا يكون ذلك، وإنما تراه لغيرك فينطبق عليهم ما قيل في (حاتم):

تراه    إذا    جئته    متهللاً
كأنك تعطيه الذي أنت سائله

لقد قسم الله تعالى الأرزاق بين العباد {ولا يظلم ربّك أحدا}، كما قسّم الفضائل، مثلما تنبت الورود من آجام الشوك فلا يزكي شعب أو جنس أو معتقد نفسه على الله جلّ وعلا الذي يحكم بين الناس يوم القيامة.

أما عن الطبيعة في (بتايا) فإنها الجاذب الأول لهذه الحشود التي لا ينبغي لأحد أن يقول أن لديه سياحة حتى يراها ويتدارسها… وإلى الغد.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s