التقرير

طلب مني الأخ (سالم صالم محمد) – زميل الطفولة ورفيق الرحلة – أن آتيه معي بتقريره الطبي عقب الفحوصات الشاملة ما دُمت ذاهباً إلى مستشفى (بانكوك) بموعد مُسبق، وبذلك يكسب فرصة راحة إضافية – كم هو بحاجة إليها – بعد يوم من المشي والهرولة مما لا يعهد سوى في الإجازات الحرة، أما إذا كنت مع العائلة والأولاد فما ثمّ غيرُ العناء لرب الأسرة، وليس عليه سوى أن يلعب دور الخادم والمرافق الأمين. أما الأمر الثاني فقد جنّب صديقي نفسه عناء الإزدحام المروري الخانق في هذه المدينة -التي تحوي عشرة ملايين من البشر يمتطون كل أنواع وسائل النقل التي يمكن تخيلها، وتعد العاشرة بين أكثر مدن العالم ازدحاماً، وما من حلول جزئية سوى امتطاء الجسور السريعة المغلقة بثمن نقدي مسبق يبلغ أربعين (باتاً) من عملتهم – أي أكثر من دولار واحد – ويحملها سائقوا التاكسي للراكب – قلت: “ربما لا يعطونني التقرير لأنه يخص غيري، علماً أن التقارير الطبية تعد أمراً في غاية السريّة والخصوصية، لأنه قراءة لحالة الإنسان من الداخل، وهو الأمر المخفي عن الناس جميعاً. قال لي: “ألم تكن معي يوم شرحت الطبيبة حالتي من معلومات الكمبيوتر، وما من فرق سوى أن تلك المعلومات ستكون مطبوعة على الورق ، لأن الكمبيوتر لا يغيّر رأيه، فين ذكاءك يا ابن النقيب؟!” قلت له: “سمعاً وطاعة”، مع أنني أشك أنهم سيقبلون مني كما أقبل منك.

قل يا سيدي، ذهبت من فندقنا القائم في ضواحي المدينة على نهر بانكوك الذي يرى على الخرائط كأنه شريان الحياة، ويعجّ في الليل بسفن السياحة المضاءة التي تتراقص على أضواء الموسيقى، أما في النهار فتمخره سفن الإنتاج والنقل والمراكبية الفقراء الذين يكدحون تحت شمس الله، وشتان بين نهار وليل، بين أناس ينشبون أظافرهم في أعناق الأرزاق، يا تصيب يا تخيب، وبين أناس قدموا من أقطار الأرض وجيوبهم ممتلئة، فهم يمرحون ويقصفون ولكنهم يجلبون معهم الأرزاق أيضاً لأهل هذه الأرض. في المستشفى أدركت منذ الوهلة الأولى أنه يوم نحس من أيام (النعمان بن المنذر)، فقد تحدّث إليّ المترجم التايلاندي المسلم وسألني عن (مملكة سبأ) المذكورة في القرآن الكريم، وهل بقي لمجدها من أثر، قلت له: “نعم، ففي وادي الجنتين معبد (أوام) وعرش بلقبيس وبقايا السدّ القديم، وهذا ليس سوى أول الغيث، لأن التنقيب ما زال في أوّله”، وكان بجانبنا عربي متجهم السُّحنة، كأن وجهه سكّين صدئة مما يُعثر عليه في العوادي الآثارية، ولكنه متبنطل (أي لابساً البنطلون) حاسر الرأس، في نظراته ما في الإبر من وخز، فتدخل في الحديث قائلاً: “ألم تدمّروا هذه الآثار بعد؟” – قالها بلهجة الآمر الناهي الذي حاز الحقيقة – قلت له: “يبدو أن نظرك كليل ونفسك قصير، لقد دخل الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم مكة والكعبة مليئة بالأصنام التي تعبد من دون الله، فلم يأمر بتدمير الكعبة، وإنما أمر بتكسير الأصنام المعبودة لكي تكون الكلمة لله وحده، ثم إن الله يأمرنا بأن نسير في الأرض ونرى آثار الأمم التي سبقتنا لكي نعتبر، ولم يقل دمّروا ما تجدونه أمامكم…”، أخذ يجادل وقد انكسرت حدته فتركته غير مأسوف ولا مردود عليه.

نعود إلى التقرير، فقد تشكك القوم في طلبي، أبرزت لهم بطاقة المستشفى فوجدوا إسماً آخر، ولكنهم كانوا من الأدب والرقة (الكادر التمريضي كله نسائي) بحيث لم يقولوا لي أن تقريرك في يدك فما شأنك بالآخر.

أخيراً غضبت غضباً شديداً أزعجهم – وهو قومٌ إذا أخرجتهم عن طورهم تفقد بوصلاتهم اتجاهاتها – فأخذوني إلى الطيبيب الذي شرح لي كمّاً هائلاً من العِلَلِ والأمراض أبرزها التقرير، ومعها ظننت أن صاحبي هالك لا محالة، وقد هاتفني يسأل، فقلت له: “نعم… أخذت التقرير، ولكني ليتني ما أخذته”، قال: “فال الله ولا فالك يا ابن النقيب، بطل المزح”، قلت: “الله والدكتور على ما أقول شهيد”، وفجأة لمحت عنوان المظروف الكبير، فإذا مكتوب عليه: (جعفر صالح محمد)، تنفست الصعداء، فأخذت أضحك وأنا أقول لـ (سالم): “مبروك، جالكم أخ اسمه (جعفر)، وسيفيدكم جميعاً آل صالح محمد”، وعينك ما تشوف الشر مما جرى بيني وبين أهل المستشفى بعد هذا الغلط الفادح… ألم أقل لكم أنه كان يوم نحس.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s