أشرت بالأمس إلى نصيحة الأخ (سالم صالح محمد) بالتبكير عدة ساعات للإستمتاع بأجواء مطار (دبي)، حيث أنه في أغلب مطارات العالم التي عرفها – وما أكثر ما عرف بحكم أعماله المكلف بها والتي تعددت وتنوّعت – فأكد أن المسافر في عجلة من أمره للرحيل… إلا في هذا المطار العربي – ويا للعجب – أترى تجربة (دبي) تؤشر لبدء دوران العجلة في العالم العربي العملاق – الذي يسير بأقدام من فخار لا تتناسب مع المسافة القارية الممتدة من ماء المحيط إلى ماء الخليج؟ – والإنسان العربي يشبه في مناحته الأخيرة على صخرة التنهدات الأندلسية… أما آن لهذا الفارس أن يترجل؟
أخذت أتأمل ما حولي بعيون مفتوحة، فليس من رأى كمن سمع، وقد استعدت تجربة الفيلسوف المفكر (روجيه جارودي) – الماركسي العريق قديماً والإسلامي المجدّد حالياً، – حين تكشّفت التجربة الستالينية من البشاعات والجرائم ضد الإنسانية، فانسحب (جارودي) من الحزب الشيوعي الفرنسي قائلاً أنه لن يؤمن بعد اليوم وهو مغمض العينين، فالمعرفة هي أساس الاختيار كما يبدو لي، و(جارودي) كان في غاية الشجاعة حين نظر في داخله ولم يهرب إلى الأمام.
ذهلت أولاً لعدد الكاونترات في المطار، “قل خمسين قل ستين قل مائة”، لا أدري، فقد رأيت أمامي ومن حولي غابة من الكاونترات، وقلت إذا كان عشرون مليوناً من البشر يعبرون هذا المرفق سنوياً فلا بد أن تكون التجهيزات مكافئة لذلك، وكان الجميل هو في السلاسة التي تمشي بها الطوابير رغم إجراءات الأمن المشددة في كل نقطة، مع المحافظة على الابتسامات والترحيب والتسهيل – التي يبدو أنها أصبحت طبيعة ثانية بحكم التربية والمراقبة – فهناك ممنوع الغضب أو رفع الصوت أو نهر المسافرين أياً كان السبب، ولأنه “ما جزاء الإحسان إلا الإحسان” فإن المسافرين لم يفلتوا من عيون الحرس، وعيون المستضيفين، وقبلهم وبعدهم الكاميرات المزروعة في كل مكان تسجل كل شاردة وواردة، والأجهزة الأرضية التي تفتش ما بَطُن في الحقائب، وتصدر أصوات التحذيرات كلما ارتدت إشعاعاتها عن معدن، حتى لو كان مسماراً مغروساً في عظم.
وبعد عبور المنطقة الأمنيّة العريضة النطاق والمتعددة المراحل بحيث إذا فات هناك أمرٌ يلحقه ذاك وصولاً إلى النقطة الأخيرة على باب الطائرة حيث التشييك الأخير… هل تضيق من ذلك؟ لا… لأن أمنك هو الهدف النهائي.
أما عن المطار – الذي تسير فيه كأنك في مضمار الماراثون – فآية من آيات الجمال لناحية الزخرفة والعناية بالجماليات، وإضفاء اللمسات الفنية، وفيه سوق حرّه ترغم حتى أبخل الناس وأكثرهم شحاً على صرف شيء من مدّخراته، وهي متعة للنظر والتسوق، وقد أغرت السوق (أبا صلاح) وهو الكريم بالطبع والسليقة فصرف من بطاقته عدة مئات من الدولارات كان لي منها نصيب، هو ساعة يد لا بأس بها، وكما يقول أهل الخليج فإن “الزبيبة لا تملأ المعدة ولكنها تجبر الخاطر”، وقد كان نصيب (علي صالح) زبيبة أخرى ولا فخر، “وأول الغيث قطر ثم ينهمل”، بعد ذلك أمامك سلسلة من المطاعم “لكل ذوق ما يشتهي”، وشرفات تطل على المطار في حركته الدائبة ليل نهار. وعلى هذه العظمة والهيلمة فإن مطاراً جديداً أضخم يجري العمل فيه على بعد حوالي عشرين أو خمسة وعشرين كيلومتراً في (جبل علي)، رغم أن مطارنا هذا ما زال بانتظار توسعات بمئات ملايين الدولارات تجري على قدمٍ وساق… إنه الطموح الذي لا يعرف الحدود، وإن كان طموحاً ضمن رؤية وحسابات يمكن الإمساك بها في الجو.
كانت الرحلة على الطيران (التايلندي) متعة وأي متعة، وكان أجمل ما في الأجمل الشيم، فأولئك قومٌ يولودون مبتسمين، والإبتسامة لا تترعرع إلا في مهاد من الأدب الرفيع، حتى أنك لتخال المضيفة “مثل الزجاجة كسرها لا يُجبر”. وقد هبطنا في مطار (بانكوك) الجديد جداً (ثلاثة أشهر)، ولكن أين الثرى من الثريا، وقد قال لي الأستاذ (سالم صالح): “مطار بانكون قلعة وأي قلعة، ومطار دبي قصر عربي أندلسي وأي قصر”، وأنت قس على ذلك… إلى الغد.