واحد عصره…

أواصل حديث الأمس في الطريق من (أبوظبي) إلى (دبي) تطلعاً وشوقاً إلى الشرق الأقصى، القابلة الجديدة للحضارة المستقبلية. وكما تعلمون فإن أي حضارة لا تلد من رحم عقيم، وهي تلتهم سابقاتها بالنواصي والأقدام، كما تفعل أنثى العنكبوت حين تنتهي من عزف فاصل الخصوبة والتوليد، فتبتلع ذكرها بالكامل، ليكون غذاءً لمن في أحشائها، لأنّ الحي البازغ أولى من الموشك على الإنطفاء، هل تجدون مشابهات في دنيا البشر الاجتماعية.

لعلّ بعضنا قرأ أو سمع عن عقدة (أوديب)… وهاجس قتل الأب في علم النفس، والذي انتقل الآن إلى النقد الأدبي تعبيراً ورصداً لتجاوز الأجيال الأدبية لآبائها المؤسسين. المهم كونوا مطمئنين أنه لا أمريكا ولا الغرب الاستعماري أو التنويري أو التدليسي قادرون على أن يضعوا العصي في دواليب الحضارة التي لا تستقرّ على حال، فهي كعجلة السيارة تدور على كامل محورها بالفسطاس المستقيم، ولكن بقياسات أزمنة الحضارة التي تستغرق ما تحتاجه دورات نضجها وتسيّدها وانحدارها وصولاً إلى تلاشيها ليحيا أفضل ما فيها في جسد حضاري مغاير، يضيف جديداً وأصيلاً، ويصعد بصخرة (سيزيف) إلى العلو الذي يتحكم منه قبل أن تتدحرج، ليأتي (سيزيف) جديد ينكبها، لعل وعسى… والجميع في القانون الكوني {إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا}، والأرض هنا بمقاييس أهل الأرض، هي هذه المدعاة التي لا تزن هباءة في كون الله العظيم، ولكنها في مقاييس الرحمن – الذي يضرب لنوره مثل المشكاة في زجاجة – هي ما لا عين رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر، فما من أرض ثابتة إلا بالمقياس والتقريب العقلي، فالمجرات والنجوم والكواكب والأفلاك تدور وتتماسك وتنهار في فضاء لا نهائي، وهي جميعاً في سفر، لا أحد يدري من أين وإلى أين؟ فمن فيستطيع أن يخرق هذه الأرض أو يبلغ الجبال التي ربما كانت مجازاً لأزمنة تتابع في علو وانخفاض، لا يدرك كنهه، وسبق ولحق يقاس بملايين السنين الضوئية التي نحن منها في معلومنا بوعي طفل ينظر إلى القمر، فيمد يده لعله يمسكه ويلعب به، {وما أوتيتم من العلم إلا قليلا}، والقليل في اللغة ربما قيس بالعدم، فأنت تقول – وقد غرفت بقصعتك – “أخذتُ قليلاً من ماء البحر”، فما قياس هذا القليل إلى أمواج المحيطات والبحار، وأنهار السماء السابحة الجاهزة للتعويض؟!

يبدو أنني أسهبت خارج الموضوع، فمعذرة… لأن الكلام يأخذ بعضه برقاب بعض، وكان (الجاحظ) – أستاذ الصحافة الأول في الآداب العربية – هو الذي استنّ أو أصّل هذه السنـّة بعد أن كانت بضاعة المجالس الشفاهية بعيداً عن التنويه، واستجابة لحاجات النفوس إلى الترويح. وكما نقول “ساعة لقلبك وساعة لربك”، ذلك أن القلوب إذا كلّت عميت، وأكثر ما يَنصح بهذه النصيحة معلّومو الصبيان، ومن ذا يصدق ممن لم يقرأوا أن كتاب (الجاحظ) (الحيوان) موسوعة كبرى في الآداب واللغة والتراجم، ونفحات الفلسفة، وبراهين علم الكلام، وما أضافه ملوك العقل من المعتزلة على حضارة الأمة من أنوار ساطعة، لذلك أنصح الذين يفرون من العناوين أو يضيقون من مضامينها أن يقتحموا العقبة، فلعلهم يجدون ضالة العمر فيرددون مع أبي الطيب:

أعزّ مكان في الدنى سرج سابحٍ
وخير  جليسٍ  في الزمان iiكتاب

قل يا سيدي عبرت شارع (الشيخ زايد) في (دبي) الذي لا بد منه للوصول إلى المطارل، وفي الشارع عجائب العالم الجديدة، ناهضة بهيجة تسرّ الناظرين، وكان يمكنني قبل عشر سنين أن أصفه، ولكنني الآن عاجز عن الوصف والتوصيف، لأن توثيقه يحتاج إلى مجلدات، أما الاختصار فعيبٌ في حق الكاتب والمكتوب. في مطار دبي كان في انتظاري صديق الطفولة (سالم صالح محمد) وأخوه (علي)، وقد سمعت نصيحتهما فجئت قبل ثلاث ساعات من الموعد، لماذا يا (أبا صلاح)؟ قال: “لأنه المطار الذي لا تتمنى مغادرته…” وتكفيه هذه الصفة المفارفة لكل مطارات العالم لكي يكون واحد عصره… فماذا يحتويه هذه المعلَم؟… إلى الغد

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s