العالم يتحدث لغة واحدة في عصر السياحة واقتصادات الخدمات، التي جعلت من بعض أفقر الدول في العالم محجاً للزوار، وملاذاً لرؤوس الأموال. ومن يفكر في عشرات الملايين من البشر الذي يتدفقون على جزر (هونج) و (سنغافورة) سيجد مصداقية وفاعلية الإقتصاد الجديد،الذي يبني كل شيء من لا شيء سوى انضباطية الإنسان وحسن تربيته وجودة ما يقوم به، وطمأنينة أصحاب الثروات الذين لا يريدون ضرراً ولا ضراراً، يوفون رؤوس مقنعة في أعمال غير منتجة، ولكن الكثير من البلدان ما زالت موبوءة بالأفكار الحمائية، التي تخفي وراها حبّ الاستثمار لفئات محدودة تغطي السماوات بالقباوات، وتلبس أثواب الوطنية للتخلف والركود والإبتزاز، وكذلك الفساد الذي لو استبدلوه بالعمل النظيف والتعامل الشريف لكسبوا أضعافاً مضاعفة دون عمل، فيعيشون في دنيا الناس منبوذين ملعونين لا تُغني عنهم أموال آبائهم شيئاً.
ومن مفارقات الدنيا أن المرء يستطيع أن يخفي فساده عن أغلب الناس، وربما يموهه فيوهم البعض أنه غاية الصلاح، ولكنه لا يستطيع إخفاءه عن أولاده وذراريه وأهله، لأنهم – لا أقول يتساءلون من أين له كل هذا؟ – ولكنهم يعرفون ويعلمون علم اليقين، فمن ناحيته هو يتباهى بقدراته، ومن ناحية ثانية يريدهم أن يترسموا خطاه كأي صاحب مهنة. وبما أنه ما من أحد يشبه أباه تماماً سوى الحمار، كما يقول المثل اليمني الساخر، طبعاً مع الإعتذار للحمار البالغ الوداعة والأمانة والشديد الذكاء، لأننا لا نريد أن نتنابز بالألقاب مع هذا المخلوق الطيب العامل في خدمة الإنسان منذ أقدم العصور، ونحن في معرض الفساد والذي لو طلب من الحمار إتيانه لرفس الطالب رفسة لا تقوم له معها قائمة، ولأجهز عليه بأسنانه التي يقرط بها الحبوب القاسية كأنها أعناب من جنة دانية، أفلا يخجل المفسدون السفهاء من إنحطاطهم دون مرتبة الحمار؟ مع الإعتذار له مرة أخرى، كما اعتذر الشاعر (أحمد مطر) للحذاء الذي تساءل عن ذنبه لكي يُهان بصفع مثل هذه الأوجه ولكن:
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن
تنادي |
قل يا سيدي بعد أن رضينا بالهم وهو لم يرضى بنا، إعتذرنا لأنفسنا، وللزمن الضائع في الإبحار البائس عبر النفوس المظلمة، وقلت لصاحبيّ في السفر اللذين ينطبق عليهما قول الشاعر (الفرزدق):
أولئك أصحابي فجئني بمثلهم
إذا جمعتنا يا جرير
المجامع |
قلت لهما ما قاله اليوناني (نيكوس كزنتزاكيس) لآباء (الفاتيكان) حين وضعوا كتابه (الإغواء الأخير للمسيح) ضمن القائمة السوداء: “أيها الآباء المقدسون، لقد قدّمتم لي اللعنة، أما أنا فأقدم لكم الشكر، أتمنى أن يكون ضميركم صافياً كضميري، وأن تكونوا أخلاقيين ومتدينين مثلي”.
وسأحدثكم في المقابل عن هذا المبدع الذي اصطحبت معي كتيّبه المعنون (تصوّف) زاداً عقلياً للسفر، والذي نحتت على قبره في (كريت) هذه العبارة: “لا أطمع في شيء، لا أخاف من شيء، أنا حر”، وقد أخذ العبارة (الشعار) عن قصة هندية تتحدث عن مبحر جرفه التيار الجارف نحو شلال صخري بلا أمل فأخذ يغني: “آه… فلتكن هذه الأغنية حياتي، أنا لا أطمع في شيء، ولا أخاف من شيء… أنا حر”. وإلى الغد.