خطر غصن القنا..

عنّ لي أن أزور وادي بنا، المنبع وليس المجرى او المصب، فهو يحمل الاسم نفسه على امتداد مساره وصولاً الى أبين على خليج عدن.

كانت أغنية مطهّر الإرياني، -رعاه الله- تتردد في أعماقي جمالاً مبهراً شفيفاً دامع الوجدان، لاتدري امن حزن ام من سرور أم من ندم في انتظار الذي يأتي ولايأتي، قلت لصاحبي علي العولقي وقد خرجنا من صنعاء : أدر الأغنية: خطر غصن القنا.. بصوت مؤديتها الاولى التي جلبتها معها الى عدن في مطلع ستينات القرن الماضي فائزة عبدالله وكان صوتها خامة ريفية لم يهدّبها تلقين الأداء أو صقل الإنشاد ولكنه كان صاهلاً وبريئاً بما يكفي لإتراع القلب بالشجن فكان وادي بنا نفسه يغني لجميلاته الفاتنات. كان الزمن رمضان وامامنا متسع من الوقت ولاهدف، فقد قرر صديقي ان يودّعني ويساعدني في قيادة السيارة حتى منتصف سمارة، حيث تمنيت عليه ان نتناول الافطار في «حِْلينْ» وهكذا أخذنا بأطراف الأحاديث بيننا، وقد نزلنا الخط الثاني الأكثر أماناً في نقيل يسلح بعد ان عبرنا بلاد الروس بقرعها الأصفر والأحمر على جانب الطريق.

ولطالما تعجبت من ذلك .. صيفاً وشتاءً، القرع مكدس ولا أحد بجانبه ولم أصادف أن رأيت أي مشترٍ على كل حال العالم مليء بالاسرار، اجتزنا معبر ، ووقفنا في «ذمار» نشتري بعض الفاكهة والنسيم بليل وفائزة تصدح أمان يانازل الوادي أمان.. أنا يابوي أنا .. آه: أنا يابوي أنا، يبدو أن لكل واحد مناحته وذكراه: قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل من «كتاب» فاتحة الوادي ذات الاسم الجميل: تفتحت الطريق على السدّه تاج وادي بنا وقد بدت الأرض الزراعية قبلها مثل معزوفة خضراء تمهد لعمل سيمفوني ضخم، وقد كان، فقد اخذت الطريق تتلاعب بنا وتلعب «الغميضة» بين إبداء وإخفاء حتى صعدنا ثلا، يا الهي- كيف انفتحت الأرض على هذا المنظر المدهش ، جغرافياً وادي بناء تختلف عن الجغرافيات اليمنية الأخرى وتقدم لوحه طبيعية- سياحية تأخذ بالأبصار، في المحويت، في سمارة، في حجة، في يافع، يتخطفك المنظر الى الذرى، الى السحب التي يغلبها العلو أحياناً، فتعترف بعجزها عن المنافسة في الصعود، أما هنا فالمسألة عكسية الأعماق هي التي تسحرك وتتحداك، يبدو انها جغرافية الماء في مقابل جغرافية السماء، جغرافية الينابيع، جغرافية الوادي. بنا مازال بكراً على مستوى الاستثمار السدّة

النادرة، المقالح، ارض كبرياء وعمران واعتزاز، وطيبة لايخطؤها القلب، هنا كانت حمير وحضارتها ولاتزال: عبدالعزيز المقالح – ضمير اليمن- أول من جعل اسم قرية كأنه اسم عائلة، لابأس : هكذا تعاد صياغة القصائد، من يستطيع ان يولد هناك ويعيش ولايتخطفه الشعر، لايهم بعد ذلك ان يكون مكتوباً او مطبوعاً في العيون أو محمولاً على عصا راعٍ ينطق باسمه مطهر الارياني:

أمان يانازل الوادي أمان. كان صديقي ابن عبدالله علي سالم العولقي قد أرسل شهقة الدهشة والإعجاب المائة، وقد وصلنا الى النادرة التي طالما حلمت بها في طفولتي وأنا أدرس في قعطبة، فقد كان الطريق الى إب التي يأتينا منها الممتحنون راكبين البغال ومحاطين بالهيبة فقد كان لهم سمت وزي غير سمت وزي من نعرف في محيط قعطبة. قلت لعلي: عد بنا فقد أخذ العصر ينحدر نحو المغيب، وجبل سمارة في الانتظار، وهو مظلوم لأنه لم يجد شاعره ومغنّيه مثلما وجد جبل صبر في ثنائي الفضول- أيوب. وصلنا الى «حِلينِ» فاذا بالمضاف المنتظر مغلق لأن سيّدات الطريق لايطبخن في رمضان.

انه شهر الرّاحة من عناء العام لمحتني «زينب» وأنا اقلب بصري في فراغ المهاوي بينما الأذان يتردد. صرخت : عّمي.. اهلاً وسهلاً.. اهلاً وسهلاً.. بانقسم الفطور.. قلت للعولقي:

ترجّل ايها الفتى، فلن يكون هناك اكل أطيب من هذا الأكل المطبوخ على نار القلب.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s