سبعة أعوام مرّت على رحيل معرّي اليمن (عبدالله البردوني)، كان خلالها الأشدّ حضوراً في الضمير، والأكثر بهاءً في مجاليِ الشعر، والأجهر صوتاً في ترصّد نبض (أم بلقيس)، وسيظل كذلك إلى ما شاء الله تعالى، فقد كان منذوراً للناس بكل ما تعنيه الكلمة، لم يكن له طموح خارج طموحهم إلاّ أن يأخذهم معه إلى النجوم، ولم يكن ل هم خارج همومهم إلاّ أن يفتديهم بالكلمة المضيئة، والعاطفة النبيلة، وهكذا تجدهم مبثوثين في ثنايا شعره، يناجيهم ويناغيهم، يواسيهم ويحمّسهم، يضحك معهم ولا يضحك عليهم، إذا تعثّروا تعثر، وإن انطلقوا انطلق، وإن بكوا بكى معهم وكفكف دموعهم. كن إحساسه بنبض الشارع معجزاً، وإذ يتعكز في الطرقات تجد جسده كله أذناً مصغية لجلبتهم وتعليقاتهم، وهمّهم اليومي المعيشي، وكل ذلك يجد طريقه إلى شعره الذي يريده أن يصل إليهم من أسهل الطرق وأقصرها، لذلك كان يعترض على رفع أثمان دواوينه، ولو كان يستطيع لوزعها مجاناً. وقد تحدثت إليه في هذا الأمر مع غلاء الورق وكلفة الطباعة وتزايد حاجاته المعيشية، ولكنه كان عند موقفه، ولم يكن يضيق ذرعاً سوى بأولئك الذين يطلبون الدواوين ثم لا يقرؤون وإنما يتظاهرون.
سبعة أعوام مرّت ومازال أمامي بكامل حضوره الطاغي، وحديثه العذب، وتحليلاته الجريئة، وقراءات في الغيب وفي النفوس والأوساط، وذلك الحنين الذي كان يخضّه خضاً، ويتملك عواطفه لنشوة الحب والحنان، وكلمة جميلة من امرأة جميلة لا يبخل عليها بشعره، ويتجلى أمامها قصصاً وأمثالاً وألمعية، حتى لتشعر أنه يحترق من الفرح لا من اليأس. ومن تلك الصبوات الماثلة أو المتخيلة كان يعيد تغذية ينابيع الشعر، ويواصل رحلة الحياة المتفائلة، فقد كان واعياً لمسيرته أشد الوعي، يعرف تماماً إلى أين يقترب ومتى يبتعد. ولأنه لم تكن له مآرب لشخصه مما يُخرج الناس عن خطوطهم الأولى الأقرب إلى أن يكونوها بضمائرهم الحرّة، فقد كان البردوني يجد في نفسه أكبر معين عليها، وإذا كان الله تعالى وقسوة الحياة قد ابتلياه في بصره، فقد أكرمنا الله عزّ وجل ببصيرته التي صقلها العمى، وهذبها الفقر، وثقفتها المعاناة، وجوهرتها عزّة النفس:
نفس عصام سوّدت عصاما=وعلمته الكر والإقداما=وصيّرته ملكاً هُماما
سبع سنوات أيها المنشد البصير، ومازال الإنشاد على أشدّه، تردده جبال اليمن ووديانها وبحارها، ويُسمع صداه في كل بلدان العرب، فمنذا سمع عن اليمن ولم يسمع عن عبدالله البردّوني، لقد تلازما وتواشجا والتحما منذ خرج على الناس بقصيدته الفاتحة بمهرجان (أبو تمام) حبيب بن أوس الطائي في الموصل مطلع سبعينات القرن الماضي:
حبيب وافيت من صنعاء
يحملنينسرٌ وخلف ضلوعي يلهث العربُ
ماذا أحدّث عن صنعاء يا
أبتيمليحة عاشقاها السلّ
والجربُماتت بصندوق (وضاح) بلا
ثمنولم يمت في حشاها العشق والطربُ
لكنها رغم بخل الغيث ما
برحتحُبلى وفي بطنها قحطانُ أو
كرِبُ |
هكذا تحتشد اليمن في شعره ماضياً وحاضراً، تاريخاً وآمالاً، جبالاً وودياناً، وأسماء تجود بها ذاكرة محبة، وموهبة لامعة، وهوىً طافح بالحياة.