ذكريات

تحدثت مضيفتنا الشابة في الجبل المنيف عن معاناتها من النحافة وأن من حولها يعيّرونها بها، نظرت إليها: رمحاً من الرماح العوالي التي تغنّى بها شعراء اليمن ومطربوها، فقلت لها:لاتصدقيهم فإن عارضات الأزياء العالميات يحسدونك على هذه الرشاقة، قالت: من هن عارضات الازياء؟ قلت لنفسي ماقاله السيد المسيح لمارتا: «إنك تتحدثين عن اشياء كثيرة والمطلوب واحد» أفي أعلى «سمارة» تتحدث عن عارضات الأزياء يا ابن النقيب؟ عاد الله بايهديك..

قلت لها: مالك ومالهم، «هاذول»، ياكلوا مناديل ورق من شان مايسمنوا وما تروح عليهم الملايين، وأنت رشاقة من الله، ردت بحسرة: بس أريد أتزوج ياعمي، قلت لها: من عيون عمك فضل، لك عليّ وأنا راجع من صنعاء أجيب أحسن أدوية التسمين، إن شاء الله ماحد حوّش، رأيت في عينيها اللتين لمعتا من خلال اللثام امتناناً أسعدني دهراً، وقد جوّدت طباخة اللحم والمرق حتى فاحت روائح «الحوائج» وعمّت«القرى والحضر» وكانت تجري غزالاً هابطة، صاعدة الدّرج العالي لذلك المنزل الحجري والأثقال في يديها كأنها راقصة بالية أوفراشة ذهبية، عمى يعمي الذين لايرفقون بالقوارير، ومن أسف وحسرة أنني سافرت من صنعاء ولم أعد عبر«سمارة» كما وعدت، ولكنني أتذكر، فالذكرى ناقوس يدق في عالم النسيان.

أتذكرّ زميلتنا في الجامعة بمصر زينب سامي الطنباري من بنات المنصورة في الوجه البحري، كنا معها ندرس كأننا نغني، ونغني كأننا ندرس، لا أدري ما الذي اجتذبها الينا وكنا«شلة» من الطلاب العرب من بلدان مختلفة، وهي الفتاة الوحيدة ترافقنا في الدرّس وفي الكافتيريا وفي الرحلة إن أزمعناها، وفي المتحف الزراعي بـ«الدقي». حين نراجع دروسنا أيام الا متحانات، ورغم جمالها، وبنات المنصورة مشهورات بالجمال في مصر، فقد اندمجت فينا كأخت كأنها خيط من نسيجنا فنتحدث أحياناً بحضورها في مواضيع«رجالية» فتصرخ دون غضب«إيه انتو ناسين أننا بينكم»..

لكم كانت زينت فريدة في وجدانها، ومتفائلة بالحياة وحالمة بالدنيا، وكان أول مافعلته بعد التخرج أن سافرت إلى أوروبا فعملت في بيع الصحف وغسيل الأطباق وأي عمل متاح يسد الرمق ويساعد على الاستمرار في التنقل بين تلك البلدان ومشاهدة عمارتها ومتاحفها وناسها، وقد كانت تجيد اللغتين الفرنسية والانجليزية فساعدها ذلك كثيراً، ولكنها أحست بقدر كبير من الضياع والذل والخوف الذي يواجهه المهاجر غير الشرعي في تلك البلدان المشرقة من الخارج المتجهمة من الدّاخل، فعادت من مغامرتها الأولى خالية الوفاض إلاَّ من زوج كان هو الغنيمة، وكان في مثل وضعها وحالها، وكل غريب للغريب نسيب، وقد قابلتها بعد ذلك في هيئة الاستعلامات المصرية حيث يتكدس خريجو الاعلام وتزدحم بهم المكاتب والممرات بدون عمل تقريباً، فوجدتها شبه منطفئة إذا ذكرت أيام الجامعة وتلك الاحلام التي تطير على أجنحتها الشابات خصوصاً تفيض عيناها بالدمع، ودارت الأيام فمررت بالقاهرة بعد 16عاماً، وذهبت لزيارتها في هيئة الاستعلامات فقالوا لي: لايوجد أحد بهذا الاسم، قلت للاستعلامات: إنني زرتها بنفسي، فسألوا العديد من القادمين والمنصرفين بلا جدوى حتى مرّت امرأة كبيرة في السن نوعاً ما، فالتقطت السؤال كأنه الفجيعة، وقالت لي: أنت تعرفها، قلت لها: نعم كانت زميلتي في الجامعة،فردّت:انتوا بتسألوا على أصحابكم بعدما يموتوا بستعشر سنة، ذي تعسّرت في الولادة تعيش أنته..آه ياقلبي.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s