كل خميس: محسن الحريبي..وداع الأقمار

رحل الشيخ محسن عبدالرب الحريبي عن دنيانا الفانية إلى حيث تنتظره كل أعماله الطيبة وسجاياه النبيلة وأياديه البيضاء على من يعرف ومن لا يعرف، وعلى البعيد قبل القريب كأنما قلبه كان محراباً للقُربات، ومتسعاً من الأرض للضيافات، وقد أعطاه الله من فضله بقدر نواياه، فكان مثالاً لرجل الأعمال الذي كون نفسه ليس من الصفر وإنما من تحت الصفر، وكان مثالاً للوجاهة الجميلة المتواضعة التي لا تخالطها ذرة خيلاء فهو من عباد الله الذين يمشون على الأرض هوناً وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما، وقد عاش حياة حافلة ومديدة على الرغم من بعض المنغصات التي لا تخلو منها حياة الناس ممّا يبتلي به الله من هداياه التي تحتسب في موازين الأعمال وخاصة مع التقدم في العمر وضغوط الحياة التي تلم بالأغنياء أكثر من الفقراء، وكان في مواجهة ذلك صابراً محتسباً لا يبالي شرقت أم غربت فقد كان في داخله نبع من الطمأنينة كراكب السحاب الذي يسير حيث تسير، وعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.

عرفت العم محسن عن كثب في مدينة جدة في ثمانينات القرن الماضي، وكنت قبل ذلك أسمع عنه واعرف بعض إخوانه وأبنائهم فنحن من منطقة واحدة وبيننا مداخلات وصهارات ووشائج من المحبة والألفة شأن الأهل من أسرة واحدة، ولكم كانت سعادتي غامرة حين اقتربت قليلا من وجدان الرجل فرأيت الإنسان لا رجل الأعمال المشهور وكانت هنيهات من حديث لا ينسى كنت خلاله المنصت المبهور، وأحببت الرجل من كل قلبي فقد كان على سجيته، وكان الملتقى في عرس ابنه محمد فسمعته يهمس لمن بجانبه: شف لنا شريط لصباح خلي الناس يفرحون.. أتعجبك أغاني أم هديدا يا عم محسن؟ الله، في صوتها الزمن الجميل الذي ودعناه.. ياله من قلب أخضر.. لقد جاءكم أهل اليمن أرق قلوبا وألين أفئدة. يتصل بي شخص ما من مطار دبي أو أبو ظبي.. نعم.. العم محسن عبدالرب أرسل لك طاقتين من قماش الدشاديش، يقول لك أعذره من التقصير.. أنا المقصر أبدا يعتذر مني وهو في مقام والدي، ياله من درس في الأخلاق ومروءات الكبار.. عاد إلى يافع إلى مسجد النور، مسقط رأسه بعد أن علقها ستين عامامن الفراق دون أن يطلقها وبنى بيته الذي أصبح حديث الناس ومقصد الزوار يتفرجون على المصعد الكهربائي للطوابق الحجرية السبعة. ويسلمون على الرجل الذي أضناه الشوق فعاد، كالطيور المهاجرة، ولم يخلف وعده في السنوات الأخيرة رغم المشقة التي كانت عذبة بالنسبة إليه. ذهبت أنا وسالم صالح محمد وأخوه علي لزيارته فلم نجده، وكنت في طريقي إلى عدن وسالم إلى قريته في ضيّان، وفي اليوم التالي اتصل بي سالم يقول لي: لك رأس غنم عندي، قلت: خيراً إن شاء الله من أين؟ قال من العم محسن فقد أرسل اليوم رأسين «نقاوة» وهو يعتذر أنه لم يكن في البيت لأننا لم نبلغه، قلت: الرأسين وصلت لي وحلال عليك بالهناء والشفاء. وهكذا هو الحال في لندن والقاهرة وبيروت حيث كان يقيم متنقلا خلف الأنسام المنعشة وطمأنينة البال، فقد ترك الخلق للخالق والعمل للأولاد، وأبقى لنفسه الفضل والذكر الحسن وسبيل المروءات.

بالأمس أبلغني الأخ سالم صالح محمد بخبر وفاته في القاهرة وأخذنا نغالب دموعنا معاً:
والموت نقاد على كفه
جواهر يختار منها الجياد

وداعاً يامن ستبقى قسراً في وجداننا تغمدك الله برحمته وأسكنك فسيح جناته وألهم أهلك ومحبيك الصبر والسلوان.. وإنا لله وإنا إليه راجعون.

One comment

  1. الف رحمة و نور عليه … اللهم اجعل قبره روضه من رياض الجنه .

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s