الناس مليئون بالأسرار، ولو اطّلعت على الغيب لولّيت منهم فراراً، ولمُلئت منهم رعبا. وقد قيل أن المحيط يمكن سبره وقياس أعمالقه، ولكن سبر الإنسان قد أعجز الفلاسفة والمتكلّمين وحتّى المنجمين الذين يرصدون الإشارات، ويتوسّلون المعارج إلى ما وراء الحُجب، فيتبعهم شهابٌ ثاقب. وقد حدّثتكم بالأمس بقصّة الأربعمائة دولار التي أضاعها (زوربا اليماني) رفيقي في بلاد الثاي والملايو، وكيف وجدها بعد ذلك في بطن (ضبّ) مصنوع من الجوارب المتداخلة في تلافيف قبّعة استقرّت في جيب معطف، وجرى تمويهها بأحذق مما موّهت الفراعنة كنوز توت عنخ آمون الأسطورية في وادي الملوك بالأقصر، ومع ذلك فإن ما جاءت به الريح أخذته العاصفة.
والتفصيل أن صاحبي حين أحاقت به السّحب السوداء في مطار (كوالالامبور) وتيقّن من اقتراب الساعة وانشقاق القمر، نذر نذراً لم يطلعني عليه بأنه لو وجد النقود فسيمنحني مائتي دولار: {إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكورا}، والمئتين الأخريين سيرسلها لصيني خدمنا كثيراً في (تايلاند) “ربّ أخٍ لك لم تلده أمك”، ذلك أنه حين أزف موعد رحيل الصيني إلى بلاده اختفى (زوربا) في إحدى غزواته الغامضة “فصّ ملح وذاب”، ولم يظهر إلا والصيني يمخر عُباب السّحاب، فأرّقه الندم وساوره الألم، وظنّ في نفسه الظنون، حتى خشي من أن يساورني الشك بأنه هرب من أداء الواجب، وهيهات أن أظنّ ذلك، ولذلك يقول: “حكمت على نفسي قبل أن يحكم عليّ غيري”، علماً أنّ الصيني لم يكن ليتوقّع أكثر من عشرين دولاراً. سألته: “ماذا أبقيت لنفسك؟” أجاب: “الله يخلي الويسترن يونيون”. وهو نظامُ الحوالات الفورية من أقصى الدنيا إلى أقصاها خلال عدة دقائق، أو قبل أن يرتدّ إليك طرفك، على أن تكون البيانات متطابقة حذو الحافر للحافر.
وقد لوّعتنا حوالة الصيني بعد ذلك أيّما تلويع، ولو أصغيتَ إلى (زوربا) وهو يأخذ بيانات الصيني والعرق يتصبب منه لصعوبة التفاهم، وتكسّر مخارج الحروف والتكرار – حيث يتغيّر الإسم في كل مرة – لغرقت في نوبة من الضحك الهستيري… المهم أنه أخيراً وبعد لأي “جاب الذيب من ذيله”، وتهجّا الإسم ورقم جواز السفر، وبقيَت المعضلة العظمى: “كيف للصيني أن يتهجّأ اسم صاحبنا (علي الضيآني) عندما يذهب للإستلام. وهات يا تلفونات دولية مكلفة جاوزت الخمسين دولاراً، والنتيجة أنه لاذا تأتّى ولا ذا حصل، فالبيانات على الجانبين مغلوطة، والحوالة معلقة بين أقطار السماوات والأرض، وكل تصحيح بعشرين دولاراً، ثم نعود فنصحح التصحيح حتى لم يبق من المائتي دولار سوى ثمانين، وأنا أجزم أن الصيني قد خسر مثلها مواصلات حتى صرخ ذات تلفون: “آي دونت وانت ذيس موني” “أنا لا أريد هذه النقود”، وطبق التلفون في وجه (زوربا) الذي ضرب كفاً بكف وهو يقول: “إعمل خيراً تلقى شراً”، قلت له: “إعمل الخير والقه البحر… ولكن تأمل نتيجة العدالة المتأخرة التي قيل عنها بأنها ظلم، ولو أنك أعطيته عشرين دولاراً قبل أن يجف عرقه لسعَدّتَ وأسْعَدّتَ”، قال: “سأقول لك سراً، لقد وقر في نفسي واستشعرت ذلك عميقاً حين اعتقدت أن نقودي ضاعت أن الصيني قد دعا عليّ وأنك قد شاركته بصورة أو بأخرى، ولذلك نذرت المبلغ لكما”، فقلت: “أما الصيني قد دعا عليك فعلم ذلك عند الله تعالى، أما أنني شاركته فلا، لأنني أعطيته مستحقاته عني وعنك، ولم أقل لك لعلّه أن يكون لك في الخير نصيب، وأشهد أنك حاولت…”.