للسفر وجوهٌ خدّاعة، تجتذب الغافل كما يجتذب العنكبوت ضحاياه إلى شبكته، ومع ذلك يمكن تبرير الخسارة أياً كانت بالقول المأثور من أن “الضربة التي لا تكسر ظهرك تقوّيه”، ذلك أن الرحيل في الآفاق إثراءٌ للتجربة، وقديماً قالوا: “ما ضاع من مالك ما علّمك”. والعلم عن طريق التجربة يختلف عن علم الكتب، فإذا كان الأخير مثل الكتابة على كثيب رمل تمسحه الرياح، فإن علم التجربة مثل الوسم بالنار، أو النقش على حجرٍ الصوّان، ولذلك نجد في الناس من ليس له بعلم الكتب شأن، ولكنه في علم التجارب (بروفيسور) يُشار إليه بالبنان.
ومن العموم إلى الخصوص، فمن بديهيات السفر الحرص على النقود، والتحريز عليها، فهي اللسان لمن أراد فصاحة، وهي السيوف لمن أراد قتالا، وما دامت نقودك في جيبك فأنت في مأمن، تختال مثل طاووس أمير الشعراء (أحمد شوقي)، أما إذا فقدتها فإن الأرض والسماء تطبقان عليك وتصبحان أضيق من ثقب إبرة، وهيهات في لحظتها أن تُدخل الجمل في سمّ الخياط، ولو كنت (عُوْجُ بن عُنق) الذي كان حين ينام يضع رأسه في اليمن ورجلاه في بلاد الشام، وهذا ما قلته لـ (زوربا اليماني) حين أضاع آخر أربعمائة دولار كانت في جيبه، ولم يكتشف ذلك إلا في مطار (كوالالامبور) الضاج بالحركة، حيث كنا قادمين إليها من (تايلاند)، وقد رأيت رفيقي وقد امتقع لونه فاصفرّ، وكان يدخل يده في هذا الجيب، ثم في الجيب الثاني فالثالث، فمحفظة النقود، والسُّحب السوداء تعبر وجهه ذهاباً وإياباً، كأن نهاية العالم قد أوشكت. عرفت أن وراء الأكمة ما ورائها، فالحذر كما قال يؤتى من مأمنه، ولم أرد أن أزيد الطين بلة فأمازحه في يوم قيامته، فأخذت أتشاغل حتى أصابه اليأس، “ولن ترى طارداً للحر كاليأس”، وصاحبي حرٌّ حتى النخاع، لذلك جاءني رابط الجأش ومدّ يده مصافحاً وهو يقول: “الوداع… الوداع يا صديقي، سأرابط بانتظار طائرة إلى (دبي)، سلّم على (كوالالامبور) واذكر اسمي أمام (بتروناس)”. ثم روى لي قصة الأربعمائة دولار.
قلت له – وأنا أغالب ضحكة في داخلي تتهيأ للإنفجار -: “أولاً يا ساحبي سأكون منذ اللحظة ساحبك، يوم لك ويومٌ عليك…” فأضاف: “ويومٌ لا لك ولا عليك” قلت: “هذه واحدة”، قال: “والثانية عادها لما تكون… هات”، قالت: الثانية أنك تتكلّم عمّا راح ولا تتكلم عما بقي”، قال: “وماذا بقي وأنا على الحديدة”، قلت: “يعني إبن النقيب مش مالي عينك”، قال: “ما فهمت…” قلت: “اللي في جيبي في جيبك غصباً عنك وعني، وهل الصديق إلا في وقت الضيق، ثم لا تنس أننا قد دفعنا إيجاراً لفندق لأسبوع مقدماً، وكذلك أجرة التاكسي من المطار إلى المدينة، أما الفراق فأجّل الحديث عنه قليلاً فهو آتٍ لا محالة:
تشكو من الدنيا وهل من معشرٍ
جمعتهم الدنيا لم
يتفرّقوا |
إنفرجت أساريره وبالأحضان، وفي التاكسي وأنا أشير له إلى الهضاب الخضراء التي تخطف الأبصر بنضارتها وجمال معماره الفني بألوان غير معهودة في مدن غرب آسيا، لاحظت أن رفيقي (علي الضيئاني) قد شرد مرة أخرى، وشاء الله أن تكون الأخيرة، فقد أخذ يبعثر الملابس والمستلزمات في الحقيبة حتى عثر على جورب في بطن جوربٍ آخر في بطن طاقية في جيب معطف، ومن الجورب المدفون خرجت الأربعمائة دولار صفراء تسرّ الناظرين، قلت له: “كيف وأنت تقسم أنها كانت في المحفظة؟” قال – والتاكسي لا يسعه -: “لعلي فعلتها وأنا نائم…”.