ينتصب البرج التوأم (بتروناس) أعلى مبنى في العالم إلى حين، في خلاء عجيب واستقامة متحديّة، وشموخ لا ريب فيه، وسط العاصمة الماليزية (كوالالامبور)، يقصده الزائرون من كل أرجاء الأرض، وعلى كثرة المباني العالية المحيطة به والقريبة والنائية عنه فإنك ترى في وجودها تأكيد وشاهد على ارتفاعه السّامق وسط بحر السّحاب التي تغسله بالأمطار كلّما شات وشاء له الهوى. وعلى فرض أنه كان للعاصمة أكثر من وسط كما هو شأن العواصم الكبرى، فإن (بتروناس) قد سرق كل الأوساط وجعلها وسطاً له. وقد شاء حظي – أو بالأصح حظ رفيقي (علي الضيآني) لأنه منظم الرحلة ومبرمجها – أن نسكن على مرمى حجر من البرج، فنحن نصبّحه ونمسّيه بالتحية والسلام وإجلال العبقرية الهندسية التي أتت بما لا تستطعه الأوائل، أما الأواخر فأمرهم أمر، لأن العالم يعيش ثورة محمومة في التطاول بالبنيان وضرب الأرقام القياسية التي تخطف الأنظار، وفي أحاديثنا المتعددة مع الرائحين والغادين من المتسوّقين طالما ورد ذكر (دبي) كنموذج للنمو السياحي والعمراني في غرب القارة، فتجد كثيرين من أولئك يشهقون وهم يقولون “دبي… نعم نعم… إنها تبني البرج الأكثر علواً في العالم… مسكين (بتروناس)”، بمعنى أن التفوق الملموس الخاضع للقياس هو مصدر جذب يتحوّل إلى إعجاب، فإلى سياحة، فإلى مورد قومي، يقيت الناس ويخطف لهم الأرزاق من أقصى الأرض:
والناس للناس من بدو حاضرة
بعض لبعضٍ وإن يشعروا خدم
|
ولو عَلِمَ (الفراعنة) العظام من (خوفو) و (خفرع) و (منقرع) و (رمسيس) و (توت عنخ آمون) ما جناه الأحفاد من أهراماتهم ومقابرهم ومصوراتهم ومنحوتاتهم لطاروا فرحاً في قبورهم التي يعيشون منها ملايين الناس على مدار السنين وإلى ما شاء الله.
البرج ليس مجرّد تلك النّصبة الشماء التي يعرفها العالم بأسره وفي داخله خلايا نحل بشرية تعكس النهضة اللافتة لـ (ماليزيا) وعلاقاتها المتشعبة بالعالم، وإنما هناك امتدادات بديعة له، حيث يوجد سوق من أرقى الأسواق التي يمكن أن تقع عليها عينا زائر، مكوّن من سبعة طوابق، ومحاط بالمطاعم والمشارب ومحلات الخدمات، وإليه يفد عشرات الآلاف من الزوّار يومياً للاستمتاع بالفرجة، وهو معرض بشري للأجناس، وخاصة حسناوات الأرض من ذوات الأعيان الصحاح:
يصرعن ذا اللّب حتى لا حراك به
وهنّ أضعف خلق الله
إنسانا |
ومن حسن حظي في هذه الرحلة أن رفيقي مصوّر محترف، لأن التصوير ليس مهنة عيشه، ولكنه محترف فنياً، فهو منذ ثلاثين عاماً لم يفارق الكاميرا حتى دخل معها عصر الكمبيوتر، فأوغل فيه تفنّناً وغراماً. وقد وثّقني في كل سارحة وبارحة، وخاصة في تلك الحدائق الغناء ذات العيون الجارية والقطوف الدانية أمام (بتروناس)، حيث عيون المها يجلين الهوى من حيث تدري ولا تدري، لكأنك بين الرصافة والجسر على عهد (هارون الرشيد) و (الحسن ابن هاني).
من لم يزر (بتروناس) فما زار (ماليزيا) وهذا فصل الخطاب.