سافر..!!

السفر أنواع وأشكال، ومنه الأظهر للعيان من بلد إلى آخر، حيث المعرفة متاحة للعين الرائية، والأذن الصاغية، والقلب المتلهف لكل جديد. ومنه السفر في التاريخ ومعطياته، والجغرافيا وتجلياتها، عبر كتاب ناطق، أو خريطة تتأملها، فتغنيك عن قراءة كتب ومجلّدات – إن كنت من المستنبطين الذين يرون ما وراء الحدود وما خلف السدود.

وهناك السفر في عقل إنسان ممتاز، مشغول ومهموم، لا من أرزاء الحياة، وإنما من معانيها ومفاتيحها ومغاليقها وما ينبغي وكيف ينبغي، وما لا ينبغي. وكيف يكون السفر في داخلك؟ وذلك سفرٌ صعبُ المنال، كأنما تصعّد قمم (الهملايا) بدون أدوات مساعدة ولا رفقاء مؤنسين، فأنت من ليلك في ليلين، ليس على طريقة (أحمد شوقي) و(فيروز) “ودخلت في ليلن فَرْعُك والدُّجى”… وإنما على طريقة النبي (يونس) عليه السلام وهو في بطن الحوت، وكلّه ليل، لا أوكسجين فيه ولا أنيس سوى رحمة الله تعالى.

وبين ليل الأعماق السحيقة حيث توجد الأسماك التي لا تُرى، لأنها أساساً لم تُبصر صُبحاً لا هي ولا أسلافها، ولذلك كُنت منذ الخلق الأول عقب الانفجار العظيم الذي لا يزال طنينه مسموع إلى اليوم لأصحاب الحظ العظيم من العلماء الذين يلقّونه بعد أن مضى عليه حوالي خمسة عشر ألف مليون عام مما نعد وليس مما عند الله تعالى: {إن يوماً عند ربك بألف سنة مما تعدّون}، وفي ذينيك الليلن المُضمرين في تجاويف ليل الناس المدلهم، لا تدري متى ستزِلُّ بك قدمك وإلى أين، فأنت بين ليل النابغة الذي دهاه به النعمان:

فإنك  كالليل  الذي  هو iiمُدركي
وإن خلتُ أن المنتأى عنك واسِعُ

وبين ليل الملك الضّليل (امرؤ القيس بن حجر الكندي):

فقلت   له   لمّا  تمطّى  iiبصُلبه
وأردف   أعجازاً   وناء   iiبكلكلِ
ألا  أيها الليل الطويل ألا iiانجلي
بصُبح وما الإصباح منك بأمثل

 

ويبدو أن السفر في النفس هو الرحلة المؤجلة لغالبية البشر، فهم عنها متقاعسون، ولها مُؤجلون، وفي آفاقها حائرون، لأنها تقتضي الكشف والمكاشفة والحساب والمحاسبة، ورصد المسارات ومحاكمتها، والإعتذار عن الجارِئ منها وتقويمه، واستيقاظ النفس اللّوامة التي تأتي من ينابيع الاستقامة، وترفض الأساليب الملتوية والمُهانة.

ذلك أعظم السفر وأشرفه، يؤدي إلى النفس الراضية المطمئنة الزاهدة، فيما يسعى إليه الناس كالفراشات تسعى إلى النار فتحرق أجنحتها. وقد سافر الإمام (أبي حامد الغزالي) من الشك إلى اليقين، فشقّ مفازات في غابة مظلمة استخرج منها لآلئ مُبهرة. وسافره (أبي العلاء المعرّي) فأتى “بما لم تأتِ به الأوائل” من معارّ النفس البشرية المتضحّلة بالضحالة، والسعيدة بالضلالة. وسافره العميد (طه حسين) في (الأيام)، فراح بين الإفصاح والإبهام… و

سافر   تجد  عوضاً  عمّن  iiتفارقه
وانصب فإن لذيذ العيش في النّصب

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s