منقرضات..!!

يبدو أن العلم ومن ورائه العلماء الذين يملؤون مختبرات العالم بحثاً عن كل جديد في إطار المنافسة الشرسة على الأسواق والمستهلكين قد تجاوزوا قدرة الإنسان العادي على الإستييعاب وإحسان الإستخدان، بل أن كل مطوّر يسعى إلى إلغاء ما طوّره آخرون قبله ليحوز قصب السبق، بجانب الأرباح الطائلة، وهذا يقتضى بالطبع تخصيص موارد للبحث العلمي، واختيار أكفّاء متفانين من البشر المتفوقين مع نظرائهم حول العالم الذي أصبح سوقاً مفتوحة للجودة، ولا مكان للتنابلة المتخلّفين الذين يقلّدون الثعلب الذي قال عن العنب أنه حامض حين لم يستطع الوصول إليه.

في (تايلند) حاولت شراء مسجل للإستماع إلى بعض الأشرطة الغنائية التي أحضرتها معي تحسّباً لليالي الأرق والرحلات الطويلة في البر والبحر، واكتشفت بعد طول عناء وسعي في المجمعات التجارية الكبرى أن المسجلات التقليدية قد انقرضت أو تكاد، وحلت محلها مسجلات الأقراص الرقمية الخفيفة الوزن والشديدة الفاعلية، وقد يئست تماماً من الحصول على مسجل (كاسيت)، وصرفت النظر عن الأمر إلى أن مررت ذات يوم في سوق شعبي، فلمحت محلاً يبيعها، فانفرجت أساريري كأنني وقعت على كنزٍ ثمين، فاشتريت واحداً على الفور دون معاملة وأخذ وعطاء، ودون فحصٍ أيضاً، فقد كان في قراطيسه كما نقول، وفي الفندق اكتشفت أنه يصدر أصواتاً مزعجة، فمفاصله تئن وتتوجع رغم أنه لم يبذل بعد أي مجهود، وقد غاظني الأمر، فرميته في سلة المهملات، لأن عودتي بتاكسي إلى ذلك السوق البعيد ستكلّفني أكثر من قيمته. ثم اشتريت واحداً آخر في (ماليزيا)، فكان أحسن من الأول قليلاً، ولكنه لا يرضي (أم كلثوم) ولا (فيروز)، ولا ذلك المغني التونسي البديع الذي يقلّد (عبدالحليم حافظ) و(أم كلثوم) واسمه (محمد التونسي). وقد استمعت ذلك اليوم إلى (أبوبكر بلفقيه) و(محمد مرشد ناجي) و(بامخرمه) من أساطين الغناء اليمني. وكان رفيقي في الرحلة (علي الضيآني) منتشياً يدندن ويتشاجن حتى حمي وطيسه، فأخذ يرقص حتى لم تعد الغرفة تتسع له، فاتجه إلى الشرفة، فخشيت عليه الهلاك ونحن في الطابق التاسع عشر معلّقين بين الأرض والسماء، فما كان مني إلاّ أن أوقعت المسجل الصغير من يدي فانشدخ رأسه، وزدت فانتزعت لسانه من (اللغلوغ) وفقاً لوصف (عادل إمام)، وكفى الله المؤمنين دوخة المسجلات، وبرأس الجهاز الذي أصيب بنوبة قلبية ولا برأس صاحبي (الضيآني)، ولا عزاء لـ(أم كلثوم)، و(فيروز)، و(حليم)، وخيرها بغيرها إن شاء الله.

المهم وبعداً عن الاستطراد، فإن (الفاكس) الذي قيل عنه قبل سنوات قليلة أنه من أهم الاختراعات في التاريخ البشري، قد أخذ ينقرض هو الآخر أمام البريد الإلكتروني، ولكم عانيت من إرسال مقالاتي عبر شبكات لا تستجيب إلاّ بصعوبة، مع مبالغة في الأجور تحرق الدم، فبعضهم يسعّر بالورقة، وبعضهم بالدقيقة مع احتساب ثانية واحدة دقيقة كاملة، وبعض الأجهزة بطيئة بطبيعتها فلا تكاد الورقة تخرج من الجنب الآخر إلا بشق النفس، وطبعاً “ما تحرق النار إلاّ رجل واطيها”، والشكوى لغير الله مذلة، وعلينا جميعاً أن نقتحم عالم الكمبيوتر وإلاّ فسنسجّل في سجلّ الأميين والمنقرضين.

 

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s