على طريقة (الحريري) و(الهمذاني) التي أزهرت بدءاً في مقاماتهما الشهيرة ثم أعمقت في ما تلا من العصور نظراً للتكلّف اللغوي الذي زاد عن حده فانقلب إلى ضدّه، مع إن الخلطة الخفيفة الظلّ في المقامه بين الفذلكة اللغوية المنحوته والحكاية السردية المبثوثة، وما يتخللهما من روح الفكاهة، والمغامرة، والتخيّل، ووعثاء السفر، وكشف الاختلالات المجتمعية، وخفايا النفس البشرية، يمكن أن تـُلهم بناءات جديدة تغني السّرد، وتخاطب المتلقي العجول – في عصر (السندويتشات) – دون أن تـُثقل عليه بالمعجميات الميتة، أو قعقعة الأوزان المُسطّحة المقصودة لذاتها، تصادف معاينها تارة وتشذّ عنها تارات.
أقول وقد بعدت: دعاني داعي المرض، فطلّقت الغرض، وشددت الرحال إلى أرض ليس فيها رمال، ولا تعرف الجِمال، إلا حدائق الحيوانات، حيث تتمخطر الحسناوات على موسيقى المطر، وخواطر البشر، وتساؤلات ما في القلوب استقر، وكان برفقتني صاحبٌ مقدام، شهمٌ هُمام، يدعى (علي الضيآني)، كأنه من شجر المسانين، أخضر القلب، وأكف البنان، يرعاني ليل نهار، ويقوم فيما أعجز عن القيام به، فيختار، ما عليّ سوى التسليم والإقرار. وقد قضينا وقتاً ممتعاً مسروقاً من الزمن، مدفوع الثمن، في بلاد (الثاي)، التي تجري من تحتها الأنهار، ويأتيها رزقها رغداً من كل الأقطار، فترى الهندي ينافس الصيني في الصرف والإبرار، والأميركي والأوروبي يسيران على نفس المنوال، بقلوب راضية مستأنسة، والجميع تحف بهم الإبتسامات الحانية، تصدر عن قلوب صافية، فهم على الرحب والسعة، أينما حلّوا وارتحلوا، في هذه الأرض الخضراء، الدانية ثمارها، كأنها اللآلئ، تميس في أحلى المعاني، وأرشق المباني، فهل نحن حقاً في الجِنان؟
هذه البلاد كان اسمها (سيام)، وقد عُرفت به بين الأنام، ثم تحوّلت إلى (تايلاند) أي (أرض الثاي)، وهم (الأحرار)، القوم الذين استوطنوها، ولغتهم تُعرف بهم ويُعرفون بها، كما هو شأن العرب ولغتهم المقدسة. ويبدو أن الإسم الجديد قرّبهم إلى (أوروبا) زُلفى، فهم آسيويون بالوجود والجغرافيا، غربيّون في كثير من مناحي حياتهم السلوكية، والتي أرى لها جذوراً في ثقافتهم الوطنية، الوطيدة المعتقد، العميقة الغور. ولديهم صفاءُ نفسٍ عجيب، وقابلية مشهودة لقبول الإختلاف، والتمعّن فيه، كأنما هم يطّبقون ما نقوله ولا نطبقه من أن “الرجال يُعرفون بالحق، ولا يُعرف الحق بالرجال”. ولهم ملكٌ يبدو أنه حكم فعدل فأمن فنام، وكانوا يحتفلون بمرور ستين عاماً على تولّيه العرش، وأظنه منافساً لملكة (بريطانيا) (اليزابيث الثانية) – التي كان الدليل يفخر أنها سكنت أحد القصول الملكية التي أرانا إيها حين زارت هذه البلاد العامرة – وترى من مظاهر الأبهة الملكية ما يُشعرك بالعراقة والثراء كأعظم ما يكون ذلك، ولكن المباني العظمى أنشأت لتخليد ذكرى (بوذا) الذي يبدو أنه ألهم شعوب هذه المنطقة ما بين (الصين) و(الهند) وجنوب شرق آسيا، وحتى بلاد (الثاي) و(لاوس) و(فيتنام) و(كمبوديا) وغيرها مآثر للحق والجمال والتواضع، كان لها الأثر الكبير في حضارتهم.
وفي تعبيرهم عن حبّهم – غير المفروض – للملك، يلبسون القمصان الصفراء، وقد كُتب عليها “عمراً مديداً للملك”، و “أنا احب الملك”. وقد رأيت وصاحبي البلاد صفراء زاهية، بالحب راوية، فغرفنا مما شاهدنا، وسُررنا مما عاينا، ولولا الغرابة لكناّ بايعنا، فهذا الملك الحكيم قد حفظ بسياسته بلاده من الزوابع الحمراء التي عصفت بجيرانه في (فيتنام) و(كمبوديا)، و(لاوس)، وجعلها بين النمور نمراً مميزاً، لا خانعاً ولا مفترساً، فعلى هذه الأرض يسير الذئب والخروف في صحبة، لا غدر فيها، وتؤدي الأفيال رقصاتها في كل مكان خدمة للإقتصاد الوطني، ثم تأكل من يد الأطفال والكبار دون أن تكشف ستراً أو تثير ذعراً… وللموضوع صلة…