زوربا اليماني..!!

توجد الأحياء الصينية في العديد من العواصم العالمية، وهي تعطي تلك العواصم مذاقاً حضارياً مغايراً، وتشكّل في الوقت ذاته معالم سياحية بارزة، لكأن الصين حين أَغلقت على نفسها الأبواب في حقبة (ماوتسي تونج) المديدة كانت مطمئنة إلى أن العالم سيجد بعضاً من تاريخها العريض وثقافتها العريقة في تلك التجمعات الصينية التي تَصنع في مواطنها الجديدة وطناً صغيراً أو مصغّراً للصين العظمى. والصيني بطبيعته كما يبدو لا يستطيع الخروج من جلده والذوبان في جلد آخر، فهو بعد أن يتذرر وهو يغادر وطنه يعود فيتماسك عبر هذه الأحياء التي تسمّى مدناً صينية في بعض البلدان نظراً لكثافة الحياة الشديدة فيها، حتى وإن كانت بضعة شوارع ومتفرعاتها. وقد زرت مع رفيقي الأثير (علي الضيآني) الحي الصيني في (كوالالامبور)، وهو يبدو متوسط الحال، فلا مظاهر للثراء الباذخ ولا علامات على الفقر المدقع. وبقدر ما يبدو طفيلياً بباعته المتجوّلين اللّحوحين بقدر ما يبدو أصيلاً في فنادقه ومحلاته الرسمية ومطاعمه المنتشرة. وقد أخذنا نتردد عليه يومياً لأن (ساحبي) مفتون بالأكل الصيني، كما أنه – يا سبحان الله – ما أن نصل إلى هناك حتى يتحول إلى (زوربا) ولكن من (اليمن) وليس من (اليونان) كما هو حال (زوربا) الأصلي الذي جسّده الممثل العالمي (أنتوني كوين) في واحد من روائع أفلامه. وآية ذلك التحول بدا أنه يكاد ينكرني وأنا أتسحّب من خلفه لاهثاً، فإذا ما مسسته من كتفه ليلتفت إلي نظر كمن يتذكر ويقول: “لعلّني رأيت هذا الوجه في يومٍ من الأيام… أين يا ترى…؟” والأمر جد في جد وليس تمثيلاً كما اتضح لي بعد ذلك، ولا عتاب، فللناس فيما يعشقون مذاهب. وقد كنا ذات مساء نمشي في أمان الله وبيني وبينه حوالي عشرة أمتار – لزوم (الزوربة) – ضريبة الحي الصيني، فإذا بموسيقى صاخبة تبدأ بالضجيج، فتوقف (زورباي) – كما أخذت أسميه بعد ذلك – وهذه المرة لم ينكرني لأنه سلّمني معدات التصوير الثمنية التي يعتبرها عديل روحه، وهكذا أخذ يرقص بإيقاعات ملهمة مبتكرة وجريئة حتى كوّن الناس حوله حلقة أحاطت به، ثم أخذوا يشاركونه هذه الفعلة النكراء من وجهة نظري حتى تلك اللحظة، إلا أن الأمر طاب بعد أن نزلت فتاتان إلى الحلبة وأخذ المتحلّقون يصفّقون فقلت لنفسي ما قاله (الخيّام) بترجمة (أحمد رامي) وصدْح (أم كلثوم):

يا رب هل يرضيك هذا الظما
والماء  يجري من حولي iiزُلال

فقفزت إلى الحلبة مغمض العينين مثل قفزة (شيبوب) في فيلم (عنتر وعبلة)، وأنا أشجع نفسي بالقول:

وما أنا إلا من غزية إن غوت
غويت  وإن ترشد غزيّة iiأرشد

فجاءت النتيجة غواية ليس فيها رشاد، فقد تزحلقت واحتجت لثلاثة أشخاص لإيقافي مع معدّات التصوير، وكان (زورباي) في مقدمة المنقذين. وهكذا انفضّ السامر، ولم أعد إلى الحي الصيني أبداً، فقد أقسمت له بقسم اليهودي الذي دخل مكة فكشفه زنّاره فتدافع الناس لضربه فكان يصيح: “هذي مكة وأنا سعيد اليهودي”، أي أنه لن يقاربها مرة أخرى، ويا ندامتي على الأكل الصيني الذي ليس له مثيل في العالم، وقد طاب الأمر لـ (زورباي) الذي أخذ يتسلل من وراء ظهري ذاهباً وعائداً من وإلى الحي الصيني. وقد علّقت ذات غضب وغيض على باب غرفته في الفندق لافتة مرقمة بخط عربي مبين

خلالك الجو فبيضي وافقسي
ونقري  ما  شئت  أن iiتنقّري

وأنا أعرف أن في البيت خلل تركيبي قياساً على أصل القصيدة، ولكن هكذا كتبت، فليعذرني المدققون من الإخصائيين والهواة.

هذا ما كان من أمر الحيّ الصيني وما جناه عليّ (زوربا) اليماني…

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s