المدن القديمة كانت تحتمي وراء الاسوار والبوابات، وخلفهما تأتي الحراسات وخطط الدفاع ومنع التجول في الظلام والعسس في الحارات، واغلاق الابواب الثقيلة للبيوت عقب صلاة العشاء كخط احمر للحركة، فالصلاة واوقاتها والمساجد وتجمعاتها هي المؤقت المعتمد للمدن الاسلامية في يقظتها ومنامها، فمع الظلام يعلو الحذر ويستيقظ الخوف، ومع انبلاج الفجر يبدأ الامان ويتبدد الارتهان لغدر الزمان ومفاجآت الانسان لاخيه الانسان.
وعادة فإن وضع المدن يعبّرعن نفسه في نفوس وسلوك سكانها فتعلو الاسوار النفسية وتنتصب بوابات الحذر من الآخر الذي قد ينقض على مصادرالعيش الشحيحة في أي وقت وقد يمتهن المحرمات التي يضعها الناس موضع الارواح منهم، وكانت المدن في حالات الحروب جائزة المنتصرين يستبيحونها ويسترخصون دماء ابنائها ويعيثون فيها فساداً.
ويروي أهل صنعاء قصصاً عجيبة عمّا جرى لمدينتهم حين أباحها الامام أحمد عقب مقتل والده الإمام يحيى عام 1948م فما أفادتها أسوار ولاحماها تحصن حين أغارالقادمون من وراء الجبال، ومن لم يجد شيئاً خلع باباً او شباكاً وحمله على ظهره يسترزق به وربما باعه لصاحبه ثم عاد وأخذه، وحين تعمّ الفوضى تختفي الوجاهات والمقامات الاجتماعية لانه بسقوط الهيبة تسقط أمور كثيرة استقرت عليها الحياة وتوافق عليها الناس، فلا عاصم لأحد من عواصف الزمن اذا هبت وعلا غبارها فأخفى ثم أظهر شياطينها، وتاريخ المدن القديمة في الشرق دراما عاتية من العمران فالخراب ومن الازدهار فالإنحدار وماجرى لبغداد عاصمة الخلافة وموئل العلم ومحجة الصنّاع وذوي المهن لايخفى ولايبلى على الزمن وهي اليوم تعيش نسخة جديدة من محنها التاريخية العظمى لاتقل عمّا ابتلاها به المغول والتتر وقد اصبحت الآن بلا أسوار الا منطقة واحدة وحيدة تسمى بـ«الخضراء» حماية للمحتل وواجهته، ولذلك استشرى فيها القتل على الهوية وبلاهوية وفلت القانون فهي غابة وحوش يلتهم قويها ضعيفها على مرأى ومسمع من العالم «المتحضر» الذي لبس أثواب النفاق فهو لايسمع ولايرى ولايتكلم.
المدن الحديثة تخلت عن الأسوار وفتحت ابوابها وأضاءت ليلها مودعة الظلام ومناجاة النجوم وقد انعكس ذلك على نفسيات سكانها مزيداً من الأمان والطمأنينة فامتد ليلهم فهناك في المدن الكبرى متاجر ومطاعم تعمل على مدار الساعة ليلاً ونهاراً، والدولة لها حضور مواز فهي عين ساهرة ويد قاهرة، والدول المتخلفة عادة مايكون لوجودها في الشارع ضجيج وأي ضجيج كأنما هي تقول انا هنا ومن كذب جرب، أما الدولة الحديثة فهي ماكرة تسير سير القطط فلا تسمع لها حفيفاً، ولكنها عند الحاجة يكون قُساتها كحمر مستنفرة فرّت من قسورة، والوجود الصامت دائماً فعَّال ولايلوث المجتمع بالضجيج الفارغ.
هناك مدن مسورة طبيعياً، أي خلقة ربانية، ومنها عدن التي تحيط بها الجبال إحاطة السوار بالمعصم وتحرسها البحار من اطرافها فهي جزيرة ان شئت وهي ذات لسان بري وان أردت، وقديماً كان مايعرف بـ«باب السلب» هو مدخلها الوحيد الذي لامحيص منه ولامهرب.
لقد ألغت الصواريخ والمدفعية بعيدة المدى والطائرات المغيرة من السماء كالطيرالأبابيل كل قيمة لأي سور من تراب او حجار كما الغت الصواريخ العابرة حزمات الجبال ومتاهات الفيافي وامتدادات البحار كل شيء يتغير ويبٍقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام.