بقلم: خالد عمر بن ققه
حين انتهيت من قراءة كتاب “دفاتر الايام” للصحفي اليمني (فضل النقيب) عادت بي الذاكرة إلى سبعينيات الجزائر مع اختلاف في رؤية القيادة السياسية في البلدين، وكثرة الخبرات في الجزائر وقلتها في ما كان يعرف باليمن الجنوبي، لكن المخاطرة لجهة تطبيق الاشتراكية كانت واحدة، وربما قد يكون ما رواه النقيب هو حال عدد من الدول العربية الأخرى في ذلك الوقت، وهذا يدفعنا إلى القول: إن فضل النقيب قد تحدث من خلال دفاتره الخاصة عن أيام دولة وتجربة أمّة، ناهيك عن روايته بحس مرهف لتجربة إنسانية جديرة بالقراءة… إنه شاهد على بعض من تفاصيل تلك المرحلة تماماً مثلما شهدت الكاتبة الصينية (يونغ تشانغ) عن مرحلة حكم الرئيس (ماو) في روايتها (بجعات بريّة).
لقد نُشرت مادة الكتاب على حلقات في جريدة الاتحاد الإماراتية عام 1998، ثم جمعت من طرف وزارة الثقافة اليمنية، وصدرت مؤخراً في كتاب، أي بعد ثماني سنوات، ونحن نعرف أن للكتابة الصحفية محاذيرها وحدودها ونمطها أيضاً، لكن مع هذا لم تفقد تلك الكتابة نكهتها الخاصة، حيث يتداخل التاريخ مع الحياة الخاصة وتضاريس الجغرافيا مع القناعات، والطموحات والآمال الكبرى مع الأوهام، وليس مبالغة إذا قلنا إن هذا النوع من الكتابة يعمّر لفترة طويلة من الزمن، لأن التاريخ الاجتماعي يتحرّك داخله.
حكومة القطيع
من البداية يروي النقيب بوعي تاريخه الخاص ضمن علاقته بعناصر النخبة في الحقلين الإعلامي والثقافي بمعناه الشامل، وأيضاً ضمن مسيرة الدولة ورهان تجربتها، ونحن – القراء – مدينون له بنقل هذه التجربة التي كما ذكرت في البداية تذكرنا بتاريخنا العربي المشترك.
بالنسبة لي – رغم زيارتي اليمن مرتين خلال السنوات الماضية – جديد عهد على متابعة الشأن اليمني، لذلك أرى أن النقيب قدّم إجابة شافية لسؤالي: “لماذا تغمر كثير من اليمنيين السعادة بالوحدة، رغم أن الفقر يطاردهم والفساد يمثل لغة يومية حسب تقارير اليمنيين أنفسهم واعتراف المؤسسات الرسمية؟” الإجابة هي: “انهم اليوم في الوحدة أفضل حالاً مما كانوا عليه عندما كانت دولتهم مقسّمة تتحكم في مصيرها القوى الخارجية، وهذا يكشف عن معنى الوحدة عند الإنسان العربي شوقاً إليها وإيماناً بها.
وللأمانة فقد سبق أن قدم لي إجابة أخرى الباحث الاجتماعي والأستاذ الجامعي (حمود العمودي) تضمّنت أحوال اليمنيين اليوم وأحوالهم في الستينيات والسبعينيات، واستشهد بتجربته الخاصة، حيث روى لي أن الرئيس الجزائري (هواري بومدين) حين زار اليمن الجنوبي في السبعينيات وأبصر عن قرب تردّي الأوضاع فيه، قال: “لو كنّا نعلم خلال الثورة أن اليمن على هذه الحال، لطلبنا بتوجيه المساعدات إلى اليمن بدل الثورة الجزائرية”.
من العناوين الداخلية في الكتاب نكتشف طبيعة المرحلة، حتى إذا ما تعمّقنا في القراءة تمكنّا من إعادة قراءة النصوص والأحداث، لأنها خليط من الرمزية وأحداث حصلت بالفعل، منها (غنم العميد)، (معركة بالأسنان والأيدي)، (نكد الدنيا)، (يا قاتل يا مقتول)، (لا يموت الذئب ولا تفنى الغنم)، (حكمة الإمام ومقالب العميد)، (غليان عدن… الدحان)، (الجرادة وصانونة الموز)، (كلمات قاتلة)، (مؤتمر صحفي للغربان)، (مشكلة سالمين)، (قاضية البار)، (حكومة القطيع)، (أوضاع قاتلة)، (من حر عدن إلى برد صنعاء)، (وداعاً لليمن)… الخ.
أم المساكين
غير أن أروع ما يقدّمه الكاتب هو الحديث عن مدينته عدن، التي اعتبرها مدينة أسطورية، التي لطالما انبعثت من رمادها كأنها العنقاء أو طائر الفينيق، تلك المدينة التي أطلق عليها الشعب اليمني لقب (أم المساكين)، يأتيها فقراء اليمن، وفقراء الهند والسند، وفقراء أفريقيا فتطعمهم من جوع وتأمنهم من خوف، ويذكر ما ذهب إليه الشاعر الشعبي الذي دخل عدن للمرة الأولى في الخمسينيات فرأى الإنجليز وأحياءهم السكنية، وطائفة البهرة – بسوقها المسمّى باسمها – والطائفة الفارسية – بمعبدها الواقع في (الطويلة)، ثم الهندوس من (البانيان) وحاراتهم المتعددة، وحي الصومال في (القلّوعة) و (الشيخ إسحاق)، وأحياء الهنود المسلمين، وأخيراً حارة اليهود ومعبدهم ومدرستهم، فحار في هذا الخليط الأممي المتعايش والمتنافر، فقال: “عدن عدن يا بندر الهنود=ومن دخل مسلم خرج يهودي”. وطبقاً للوصف السابق لعدن ولأيامها يصبح وزير الثقافة اليمني (خالد عبدالله الرويشان) محقاً فيما ذهب إليه حين قال عن فضل النقيب، إنه “ناثر باهر وشاعر ساحر يقطر شفق حنينه عذوبة منغمة وحميا إشراقاته إكسيراً للحياة…”.
يالهول ما رأى الشاعر وغرائب ما عانى، كيف استطاع أن يحيل الحرائق إلى ضوء وحمرة الألم إلى شفق أخاذ وأن يجعل من العمر ساعة تجل وتمل لبارق ذلك الضوء ووفقة جلال وإجلال لذلك الشفق.
فضل النقيب: رقة شاعر، وموسوعية مثقف، وشغف فنان، وأريحية زعيم. إن الوصف السابق محق بدليل أن النقيب بعد ذكريات أيام الألم والمعاناة في جنوب اليمن من دفاتره وأيامه انتهى إلى القول: “إن الكتابة ما هي إلا ترجعيات ذاكرة مترعة بالهموم وأصداء معاناة ترسّبت في أعماق الروح، وكان لها لا بد أن تصعد يوماً إلى السطح، وقد تخلصت من الشوائب وبرئت من الجراح، ومالت إلى المرح تقتنصه من فيض المرارة.
سرير (فيدباس)
ليس ذلك فقط، بل إن فضل النقيب بحسّه الوطني المرهف وبتجربته الواعية والمتنوعة يرسم لنا مشهداً تاريخياً لفعل القادة السياسيين حين يقول: “لقد مضى أبطال تلك المرحلة بحسناتهم وسيئاتهم، ببطولاتهم وبضعفهم الإنساني، بمعرفتهم وبجهلهم، بطموحاتهم وانكساراتهم، وكانوا في كل الأحوال نتاج مرحلة عاصفة ووضع اجتماعي عصف في وطن منقسم، كما لعبت الظروف الإقليمية والدولية دوراً كبيراً في تعقيد الأوضاع، وزاد الطين بلة اعتناق العقيدة الماركسية التي أصبحت مثل سرير (فيدباس) في الميثولوجيا اليونانية. في النهاية يخلص النقيب إلى نتيجة مفادها أن تلك التجربة لم تكن سيئاتٌ كلها، ولكنها حققت جانباً إيجابياً، كانت اليمن ولا تزال المنطقة العربية كلها في حاجة إليه، وهو توحيد الجزء الجنوبي من اليمن، نجد ذلك جلياً في قوله: “للحق فإن التجربة التي امتدت لأكثر من ربع قرن قد أنجزت مهام كانت تبدو في عداد المستحيلات، وفي مقدمتها توحيد الجزء الجنوبي من اليمن الذي كان يضم أكثر من عشرين سلطنة وإمارة ومشيخة، لا تربطها أية وشائج، كما أن المد التعليمي والتأهيلي الذي أسهم الاتحاد السوفييتي بنصيبٍ وافرٍ فيه، قد نقل المعرفة إلى كل بيتٍ تقريباً فارتفع الوعي الذي أسهم بدورٍ كبيرٍ في تأجيج الاختلافات نظراً لعدم وجود قنوات طبيعية ومدنية تستوعب التعددية التي هي من طبيعة الحياة. بعد هذا كله، أليست تجربة اليمن الجنوبي هي امتداد للتجارب العربية، وأيام عدن هي أيامنا، ودفاتر النقيب هي دفاترنا أيضاً؟ للقارئ حق الإجابة والحكم.