أطلقت تونس أمس الأول السنة الاحتفالية لمناسبة مرور ستمائة عام على وفاة عبدالرحمن بن خلدون مؤسس علم الإجتماع، وصاحب النظرات النقدية الكاشفة في الحياة والأحياء، وفي العمران والإندثار، وفي البداوة والحضر. وكان كتابه (المقدمة) هو الأثر الأبرز الذي عكس فتوحاته الفكرية، ومواهبة الفذة، وخروجه على النقل – الذي كان الطابع السائد للحياة الفكرية – إلى الإبداع الذي مكنه من إعادة قراءة الواقع ضمن معطياته وعِبَره وتقلباته. ومع الأسف أنه لم يُقدّر للفكر الخلدوني أن يُؤسِّسَ لعقل جماعي جديد كان قد سبق النقلة العقلية التي بدأتها أوروبا بإعادتها الأسئلة الكبرى، وطرح التفكير من القيود والأعباء المسبقة، وكسر المحرّمات التي وسمت القرون الوسطى بما تملكه من إجابات مُحنّطة مُسبقة، وبما سلكته من إرهابٍ وصل حد إحراق بعض المفكرين الذين خرجوا على النواميس وهم أحياء، ناهيك عن المطاردة الحثيثة لكتبهم وأفكارهم وأتباعهم، فليس كالفكر يشرّع عواصفه، ويرسل أعاصيره لتجديد الحياة إذا ما اعتنقه مؤمنون بصدقيته، فاتخذوه نبراساً هادياً. ومن هنا فإن التفكير الجديد يستنهض مقاومته من قبل الفكر الذي سبقه، والذي يستشعر الخطر الوشيك، فيبادر إلى الهجوم وإثارة الغبار الكثيف لحجب الرؤية الجديدة، ثم تحويل الصراع من حوار أفكار إلى حرب معتقدات، متوسلاً بالدين، وذلك ما فعلته الكنيسة التي مُنيت بالهزيمة لاحقاً، لأن الحياة لا تعترف بالجمود، ولا تُقرّ الحجر على الفكر، ولأن من لا يتقدم يتأخر حتماً.
لقد سار مفكرو عصر التنوير الغربي على خطى عبدالرحمن بن خلدون – عرفوه أم لم يعرفوه – ذلك أن الأفكار المخدومة كالرياح اللواقح تدور حول الكوكب وتعطي ثمارها حيث توجد التربة الخصبة، وقد عايشنا هبوب الأفكار الشيوعية ومولوداتها من الاشتراكيات، وقد جالت حول العالم بدء من ألمانيا وأنجلترا موطن نشأة الفكر، إلى روسيا وبلاد السوفييت أول من شَرَعَ بالتطبيق والاختبار، ومن هناك إلى الصين وفيتنام وكمبوديا شرقاً والشرق الأوسط وأوروبا الغربية، ثم أخذ في الإنحسار حيث الجمود العقائدي، وفي تصحيح المسار وتحسين الأداء بعد الحذف والتشطيب في الصين، وتلك سنن الحياة، ولن تجد لها تبديلا. كانت مقدمة ابن خلدون ثورة في زاوية الرؤية، وفي المنهج وفي التحليل، وهي قراءة في كتاب الوجود ومرتقياته ومنحدراته، وقد عاصر ابن خلدون عصراً قلقاً تراكمت فيه عصورٌ سابقة، وكان يؤذن بغروب وشيك، فمع إشراقة الفكر الخلدوني كانت الكتلة الحضارية الإسلامية بمدوّناتها الكبرى قد ولجت في الجمود والإجترار وعدم القابلية للقراءة والتعلم، فهي ترد موارد ملتبسة، فيما (المقدمة) محمولة على ظهورها في عالم النسيان:
كالعِيْسِ في البيداء يقتلها الظّما=والماء فوق ظهورها محمول
إن إحتفالية ابن خلدون ليست خالصة لتونس التي ولد فيها، وكان ينبغي أن يشارك فيها كل العرب، لحاجتنا الماسّة جميعاً إلى الفكر والنظر الخلدوني، ولأن ابن خلدون – الحضرمي اليماني انتساباً – قد جال في المغرب العربي وأندلس الطوائف – التي نستنسخها الآن- ودرّس في الأزهر الشريف، وفاوض المغول في الشام، ثم مات في مصر. إنه عربيّ بامتياز، وعالمي بامتيازين، لما له من فضل على الفكر الإنساني الذي يجد الناس فيه أنفسهم إخوة…
إبن خلدون… منارة لا تنطفئ
7 مارس 2006
قرّض المؤرخ الإنجليزي الشهير أرنولد توينبي مقدمة ابن خلدون بالقول إنها “أعظم عمل في مجاله أنجزه عقل في أي مكان وزمان”، وهذا القول المنصف يسلّط الضوء على الذخائر الثمينة التي احتوتها المقدمة في استقرائها للتاريخ والطبائع الإنسانية وأطوار التقدم والنكوص، وبذلك أسس ابن خلدون للنظر العقلي المبني على أسس من العلم والدراية، ونبذ بلا هوادة النقل والتقليد اللذين كانا عنواناً على الجمود وصناعة للكتب مما كُتب قبلها دون تمحيص أو تمييز. وقد جاءت أكثر المؤلفات شروحاً على شروح، أو إيجازات، فيغنيك كتاب واحد عن عشرة من أضرابه، كما هو حال كتاب (الأغاني) لأبي فرج الأصفهاني، الذي استغنى به الصاحب بن عباد عن حمل قافلة من الجمال كان يستصحبها في أسفاره لتكون كتبه في متناول يديه.
لقد ولد التاريخ في مقدمة ابن خلدون ولادة جديدة، فانبعث من الرميم المستهلك إلى النبض المُعاش الشاهد المُدرك، الذي يمكن التنبؤ بمساراته ومعرفة أمراضه وأعراضه، فبعد أن كان سكونياً حوّله إلى إبداع ديناميكي، فقد أدرك أنه لا شيء يأتي من فراغ، وإنما هي سُنَنٌ يلد بعضها بعضاً، والإنسان يستطيع بتدخله الحاذق التأثير في حركة التاريخ، ولكن الجماعة هي المؤثر الأكبر، فارتقاؤها ارتقاء للحياة، وانحطاطها نذيرٌ بالتدهور. ورصد ابن خلدون ولادات الدول وشبابها وسن النضج، ثم بداية الإنحسار والإنحدار إلى الشيخوخة فالإضمحلال، جرياً على سنن الولادة والنمو لدى الإنسان، وبذلك فإن التعاقب هو من قواعد العمران، فلا شيء يبقى على حاله، والمؤرخ الناقد هو الذي يعرف زمانه ومكانه وناسه والطور الحضاري، وقد جاء ابن خلدون وزمانه يهرم بملوك الطوائف وأمراء الأقاليم، كأنه المعنيّ بقول المتنبي:
أتى الزمان بنوه في شبيبته=فسرّهم وأتيناه على هرم
يقول في المقدمة: “إن الأخبار إذا اعتمد فيها على مجرد النقل ولم تحكّم أصول العادة وقواعد السياسة وطبيعة العمران والأحوال في المجتمع الإنساني، ولا قيس الغائب منها بالشاهد، والحاضر بالذاهب فربما لم يؤمن فيها من العثور، ومزلّة القدم، والحيد عن جادة الصدق. وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفهرسين دائمي النقل من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً، ولم يعرضوها على أصولها، ولا قاسوها بأشباهها، ولا سبروها بمعيار الحكمة، والوقوف على طبائع الكائنات، وتحكيم النظر والبصيرة في الأخبار، فضلّوا عن الحق وتاهوا في بيداء الوهم والغلط”.
هذا النظر العقلي المستنير ليس منهجاً للتاريخ فحسب، وإنما ينسحب على كل مناحي الحياة الفكرية والعملية، وهو ما ينبغي التأسيس عليه، ولذلك قال ناشروا المقدمة ضمن (كتاب في جريدة) إن عمل ابن خلدون مازال حاضراً بقوة لجهة قدرته الكبيرة على الإبحار الفكري من أجل سبر أزمات حاضرنا وانهياراته.
إن عبدالرحمن بن خلدون الذي توفي في 19 مارس 1906، وتحتفل الأواسط الثقافية لمناسبة مرور ستمائة عام على رحيله هو منارة بارزة في عصره وفي كل العصور اللاحقة، والجامعات العربية على وجه الخصوص مدعوّة إلى انبعاث تراثه ونشره.
فضل (المقدمة)…
8 مارس 2006
حين كتب ابن خلدون مقدمته، صاغها كأنها وصيته، وكان في وضع استيحاش في قلعة أولاد سلامة من بلاد بني توجين في المغرب الأقصى، الذي كانت أقاليمه تسيح على بعضها، فتتعين حدود السلطنات وفقاً للغلبة، وما يصل إليه السيف، تحمله أعنة الخيل، وتضرب به الفرسان.
لقد أقام في قلعة أولاد سلامة أربعة أعوام من التأمل الحذر، عقب حياة حافلة بالعلم وممارسة السياسة والكتابة لحكام متعددين، وحين واتته (المقدمة) أدرك بجلاء أنه قد حاز بها فتحاً علمياً مبيناً لم يسبقه إليه أحد، وقد كتب في مذكراته:
“أقمت في القلعة أربعة أعوام، متخلياً عن الشواغل كلها، وشرعت في تأليف هذا الكتاب وأنا مقيم بها، وأكملت (المقدمة) على ذلك النحو الغريب الذي اهتديت إليه في تلك الخُلوة، فسالت فيها شآبيب الكلام والمعاني على الفكر، حتى امتخضت زبدتها وتآلفت نتائجها”.
المتأمل في قوام (المقدمة) وتقاسيمها تتكشف له عن عقد ثمين صاغه جواهرجي حاذق الصنعة، أحاط بموضوعه في نفسه، وسَكَبَه في عقله قبل أن يضعه على الورق، وينقشه بالقلم ثم يمتحنه في نار تاريخ الفكر الذي لا يبقى فيه غير الأصيل النادر الذي يصمد أمام اللهيب فلا يزيده إلا توجهاً ولمعاناً.
وكان ابن خلدون شجاعاً بما فيه الكفاية ليغرّد خارج سرب التقليد وترديد التلقين، وفي تاريخ الفكر فإن الشجاعة الروحية والعقلية والمعرفية هي التي تستلهم الجديد وتحتويه وتدفع به إلى مضامير السّباق حيث الأفكار طرائد والعقول شواهد، والأحداث مرايا ومشاهد، تتغير وتتبدل، وتحكمها قوانين ظاهرة وأخرى خفية يلتقطها من يسترقون السمع إلى نبض الحياة في تدفقها بين الليل والنهار، وبين اليسار والإعسار والصعود والإنحدار:
“ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطّن له إلا الآحاد من أهل الخليقة، وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنها هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول، سنّة الله التي قد خلت في عباده” من (المقدمة).
لاحظ الشمولية المنهجية للزمان والمكان والفرد والمجتمع والسنن الإلهية النافذة، فلم تعد لدى ابن خلدون في مقدمته حوادث منفصلة، وإنما هو الإتصال ظهر أم خفي، صرّح أم لمّح. وظيفة المؤرخ العالم هي كشف الغطاء بمبضع الحكمة وسداد الرؤية وحُسن المعالجة، مثلما يغوص الجرّاح الماهر بمشرطه في الجسد الحي عن سابق دراية بوظائفه وتعقيداته، فَيَصِلُ إلى حيث الداء لا يجرح مرضاً ولا يقطع موصولاً إلا أن يكون ذلك لهدف جلي مقدور على إصلاحه أو تعويضه.
ويمكننا القول – والوسط الثقافي يحتفل بالقرن السادس على وفاة عبدالرحمن ابن خلدون – إن منطوق (المقدمة) ليست كلماتها وجملها فقط، فهي كتاب ينسل الكتب كما تنسل النحل العسل الذي فيه شفاء للناس، وعلى ضوئها يمكن إعادة قراءة المجتمعات العربية المعاصرة التي تمتُّ بكبير صلة لتلك المجتمعات التي كانت موضع دراسة، وما قاله وحللّه وتبيّنه ابن خلدون هو الكليات الكبرى التي بها تتأطر العلوم، فتحوّل مجاريها شأن السدود التي تلجم الأنهار، فتحيي بتغيير مجاريها أرضاً مواتاً تتفجر أشجاراً أزهاراً وثمارا.