صديقي الدكتور محمد يمتلك فراسة نادرة في قراءة أوجه مرضاه ورصد حركية أجسادهم وماترمز إليه من معاناة وماتعبر عنه من تراكم الألم ورسم خريطة طريق جديدة «تلزمهم» ويلزمون أنفسهم بالسير في وهاءها وطرقها الوعرة «ومن كتبت عليها خطى مشاها».
ذهبت ذات يوم لزيارته وبصحبتي صديق عّرفته عليه وبعد أن لاحظ مشيته وطريقة قيادته للسيارة قال لي: لابد أنه عانى من جلطة دماغية أولية، قلت له:كيف عرفت؟ قال:من ردود افعاله البطيئة نوعاً ما، ومن خوف أحدثته الجلطة يجعله يحدق ويتأمل ملياً كمن ينتظر شيئاً ويتوقعه، ومن شحوب في الوجه ونظرة شبه تائهة في العينين، وأضاف أنها مجرد نظرة استرشادية لاتحليلية، وبعد فترة كنت أتحدث الى ذلك الصديق العزيز فروى لي بشيء من الألم ان جلطة قد ضربته نجا منها بأعجوبة، والغريب انه لم يشعر بنذرها المسبقة كأنما اخذته على غفلة.
هذه الفراسة هي مزيج من العلم والموهبة تختصر الطريق الى التشخيص السليم الذي يضل فيه بعض الأطباء ضلالاً كبيراً فإما يحدثون عاهات لمرضاهم أو يصيبونهم باليأس من العلاج أو يغرقونهم في مهدئات قد تعالج الأمراض ولكنها تخطئ الأمراض، ومع أن الاجهزة المساعدة والمختبرا ت وتحليلات الكمبيوترات قد بلغت شأناً عظيماً إلاّ ان قراءة مجمل المعالجة الطبية تؤكد مركزية دور الطبيب الماهر.
حب الناس والتودد اليهم وحسن الإصغاء الى شكواهم ممايعانون ثم فسح آفاق الأمل امامهم والأخذ بأيديهم نحو الشفاء هي من الأمور التي لاغنى عنها للحكيم المتطلع الى النجاح.
أخذني ذات يوم من يدي وأجلسني على الكرسي وقال لي: أراهنك على انني سأجعلك أصغر بعشر سنوات، واخذ يستصفي مافي وجهي من لحميات صغيرة بفعل غارات الزمن، وبعد حوالى نصف ساعة افلتني صفاً أملس دون ان تسقط قطرة دم واحدة فنحن في زمن الليزر الذي يلامس ولايخادش لكأنه مشرط البرق، وهكذا فعل بصديقي عبده يسلم بن مساوى الذي رمته يد الأيام بـ«خال» في حجم حبة البن اتخذ له مغاره أسفل عينه اليمن كأنه جلمود امرؤ القيس دون كر ولافر ولا إقبال ولا إدبار.
فسحبه الدكتور من مخبئه قبل أن يرتد الى صديقي طرفه.. قلنا له: الحساب يادكتور اجابه الحساب يوم الحساب.. ان التوجيهات لدى الممرضة بأن لاترد اي مريض لايملك نقوداً، لأنني اذا رفضت علاجه سأشعر انني هُزمت اخلاقياً ودون مستوى المهنة، وصدقني يضيف: ان الحسنة بعشرة امثالها، وليس هناك مايبعث على السعادة التي لاتقدر بثمن من دعاء مكروب تنفتح له ابواب السماء، أما انتم فأصدقائي.. وين بايروح منكم وجه بن هرهرة، فذكرته ما قاله الأمير الشاعر احمد فضل القمندان:
وعاد خالي جبل ياما أكبره
وانته تخبر على بن هرهره
عبدالله النعمان، يمتلك كياسة ولطافة بيت النعمان وشغفهم بالكلمة، اضافة الى انشغاله بالزراعة في مزرعة له في تهامة والتي تقرب الانسان من أمه الارض ونبضها، وكان معنا لطفي فؤاد نعمان جواب الآفاق.
وحين رأى الدكتور محمد عبدالله النعمان سأله عم يعاني ولم يكن قد ذهب معنا مستطبياً مشيراً الى «القرحة» فضحك الدكتور كأنه يطرب قال: لقد قرأتها في وجهك، ولن تجد لها أثراً بعد اسبوع، ثم كتب له الروشتة، لم يصدق النعمان نفسه ولكن المسألة كانت تحدياً، ومن كذب جرّب، وقد أسهب الدكتور في شرح الاكتشاف العالمي الذي لم يسمع به الكثيرون من ان سبب القرحة بكتيريا يتم القضاء عليها في اسبوع. اكتب ذلك وامامي صورة الاستراليين باري مارشال وروبين وارين اللذين فازا بنوبل الطب قبل أيام تقديراً لاكتشافهما بكتيريا «هيليكو باكتربيلوري» في المعدة ومعهما تذكرت الدكتور محمد علي اليافعي في تعز.. الله يمسيك بالخير يادكتور وكل النابهين في أعمالهم والمخلصين في جهودهم.. ورمضان كريم.