تيسير علّوني

تيسير علوني
تيسير علوني

وأنت الآن قابع في سجنك يا تيسير، أغمض عينيك لكي ترى أوسع، وصمّ أذنيك لكي تسمع أوضح، واستحضر في خيالك وخاطرك ذلك الألق الإعلامي في أفغانستان والعراق والبوسنة، لعلك ترى في لهيب النيران انصهار عالم قديم بمسلّماته وقواعده وأبطاله، وانبثاق عالم جديد بميوعته ولا قواعده وأمساخه، ومحاولاته الدائبة ليل نهار لتغيير قواعد اللعبة وأولوياتها ومصطلحاتها. وقد كان إلقاء القبض عليك وإلباسك تهمة من دُرْجٍ ما، واقتيادك إلى محكمة حارت في تطبيق القانون عليك فبرّأتك من عضوية القاعدة وأدانتك بالإتصال بإرهابيين رتّبتَ عبرهم مواعيدك الإعلامية وتطلّعك المشروع إلى تحقيق سبق صحفي، دون أن تعرف أن مياهاً كثيرة قد جرت في النهر الذي خبرته وطالما سبحت فيه جيئة وذهابا. لقد كان ذلك نوعاً من جنون العصر… إذ أن إلقاء القبض عليك والتحقيق معك وتقديمك للمحاكمة كان تغييراً في قواعد اللعبة بين الصحافة والسياسية، فالحقيقة لم تعد مطلوبة اليوم، فالمطلوب هو الاصطفاف، وأنت لم تصطف حيث وقعت، وإنما اصطفيت حيث وجدت نفسك في حلمك الصحفي الزاهي.

كان من سوء حظ القضاء الأسباني أن وقع الاختيار عليه ليضع السابقة، ويتحمّل وزرها أمام التاريخ الذي لم يعفه بعد من محاكم تفتيش القرون الوسطى، التي كانت تُحاكم الضمائر، وتستنطق ما في تلافيف النفوس للمخالف للعقيدة والمغاير في الأثنية والمفارق في اللون، وها هو التاريخ يعيد نفسه، فأنت يا تيسير واحداً من “المورسكيين” المحدثين، حوكمت بالشك، ولم تُحاكم باليقين، وأُدنت بالشبهة التي كانت يجب أن تُفسّر لصالحك، وقيدت ضدك جريمة تقديم فنجان قهوة لزائر يقدمها العربي إليه حتى لو كان قاتل أبيه ما دام في بيته.

ما علينا… ولن نبكي على اللبن المسكوب، ولا على جنسيتك الإسبانية التي رُمت بها نجاة من هلاك فأوردتك السجن سبع سنوات، وصدقني أننا كنا سنقول للقضاء ضاعفوا له العذاب لو أثبتوا أنك إرهابي على سنٍّ ورمح، ولكنهم تأتؤوا وتلعثموا، ولذلك يتعرّضون اليوم للرجم من منظمات حقوق الإنسان حول العالم، ومن مؤسسات قانونية معتبرة تقرأ ما قرأوا ولا توافقهم في فهم ولا استنتاج ولا حكم، وهي تخلص إلى أنها كانت محاكمة سياسية لا جنائية، والسياسية حمّالة أوجه لا يُراد بها وجه الحق، وإنما وجه المُراد.

ورغم مأساتك الشخصية والعائلية يا تيسير يا علوني فإن كثيرين يغبطونك لأنك لو كنت أمام بعض قضائنا العربي لربما كان جلدك قد حُشي بالتبن، ووصل إلى المدبغة قبل أن تنبس ببنت شفة، ويبدو أن القضاة الإسبان قد وقفوا طويلاً بين الواجب والمطلوب، فقرروا إطلاقك إعلامياً، وتوقيفك جنائياً، لعل ردود فعل العالم الغاضب توازن حجر الرّحى التي وُضعت على أكتافهم، فيكون في ذلك المخرج المطلوب.

وآخر أخبارنا لذيذ السّبات الذي تمرّدتَ عليه، وخيرنا الهائمون على وجوههم في أسواق الأسهم الملتهبة، حيث المكاسب بلا هناء، والخسائر بلا عناء، وأولئك المتبلدون أمام توافه المواضيع في الشاشات البلهاء يعانون من التلوث الصوتي واليَرَقان الصّوري في هذا الشهر الكريم، فلا تقلق… فستجدنا بعد سبع سنوات حيث عرفتنا، لذلك لا نقول وداعاً… ولكن إلى لقاء.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s