كان شارع الشيخ عبدالله البعيد نسبياً عن الوسط التجاري صورة لعدن، فأمام بيت الشيخ علي كانت تقطن عائلة يهودية كثيرة الحركة والجلبة، وعائلة فارسية من معدن جمال لا يُنسى، وعائلة إنجليزية كئيبة في الطابق الأخير من عمارة حديثة وتحتها عائلة هندية، وقد شهدت ذات يوم معركة ظالمة بين الإنجليزي والهندي الذي أكل ضرباً مبرحاً دون أن يحرك ساكناً. وفي الجوار كان بيت رجل الأعمال الحاج سيف، وباتجاه العيدروس أبعد قليلاً كان بيت الشيخ عمر قاسم العيسائي ومتجره النامي آنذاك، ومقابلهم كان بيت عائلة تجارية من الكويت، وإلى الأعلى بيت الشيخ عبدالرحمن بازرعة، وفي القلب مسجد الشيخ عبدالله المحاط بالأسرار.
ولا أزال أتذكر حتى اللحظة الانطباعات الأولى المدهشة عقب قدومي صغيراً من الجبال اليافعية. وكانت الدهشة الأولى أضواء عدن الكهربائية البازغة للقادم من الطريق البحري، في زمن كان الفانوس أبو ذبالة هو الغالب على الريف اليمني بأسره، وكان آية في الجمال عقب «الغازة» التي لا تكاد تضيء نفسها، ولذلك كانت أضواء عدن سحراً ما بعده سحره، والدهشة الثانية حين دخلت مكاتب الشيخ علي في الطابق الأرضي المضاء «النيون»، فبدت لي وجوه العاملين كأنها مضاءة من داخلها، فيما العرق يتصبب منهم وهم منكبون على عمل لا ينتهي تحت أزيز المراوح الدائرة.
وكان على رأس هؤلاء محمد علي الهندي الخبير بالمراسلات والحسابات ومسك الدفاتر، وكان رحمه الله على جانب كبير من الخلق والبشاشة والإخلاص في العمل، وكان الشيخ علي يساعده أخوه حسين هو الدينامو يلتقط الجميع إشاراته كأنما بـ «الريموت كنترول».
وكانت «طاقات» القماش تتدفق من اليابان وعليها صور الحسناوات، والسوق متعطش لكل جديد، فلم تكن عدن آنذاك هي السوق وإنما بوابته امتداداً إلى الداخل اليمني والجزيرة العربية وشرق أفريقيا، وذلك قبل فترة وجيزة من زمن «جرين ليف» ذلك القميص الأنيق الوثيق الذي ضرب الماركات الفاخرة برخصه وموثوقيته، فأصبح حديث المدينة وكان وكيله الحصري الشيخ علي يصرفه من محلّه في «الميدان»، الذي كان مقراً قبل ذلك لشركة سورية مشتركة تضم في عضويتها الشيخين عمر وعلي واثنين من تجار سوريا، وكان لوالدي حصة صغيرة إضافة إلى عمله كمدير تنفيذي مسؤولاً عن المبيعات والقيود، وكان الإنتاج السوري متفوقاً على الياباني في مجال النسيج بمراحل قبل أن تضربه صاعقة التأميم الناصرية فيصاب بعجز مزمن يعانيه حتى اليوم، وقد تخلف عن الزمن الذي لا ينتظر أحداً، ولا أظن أن بيتاً في اليمن قد خلا من مبيعات تلك الشركة.
عقب ذلك دخل الشيخ علي بشراكة لم تنفصم مع الشيخ عمر في صناعة المشروبات «كندادراي» وتجارة وإصلاح السيارات «الشركة العربية» وغير ذلك من مجالات ينمو بعضها من بعض، حتى جرى القضاء عليها بضربة لازب بقرار التأميم الأعمى، الذي نقل الثقل الاقتصادي إلى عواصم أخرى كما هي سنن الله في الكون، وأفقر عدن بعد أن دخلت في نفق مظلم من الكساد واللا إنتاج .. وللموضوع صلة.
كان بيت الشيخ علي عبدالله العيسائي في حارة الشيخ عبدالله بكريتر محكوماً بنظام دقيق لكنه غير متزمت: هناك طباخ رسمي اسمه «بلال» من حضرموت يقيت المقيمين والزائرين بالوجبات الثلاث دون تقتير ولا إسراف وكان بلال بالغ السمنة ولكن نَفَسَه في الطبخ لا يُعلى عليه والجميع يقدرونه ويبالغون في مجاملته وهو أهل لذلك في موقعه المرموق، وكان هناك قيّم على الأرزاق حازم ومأمون اسمه محمد أحمد يجلب المتطلبات من الأسواق ويمنح كل طالب نصف شلن يومياً ويقدم الحسابات إلى الشيخ فيعتمدها إلى الصندوق، ولم يحظ بغرفة منفصلة في البيت سوى محمد عبدالله العيسائي أخ الشيخ علي الذي كان يوليه عناية فائقة ومحبة زائدة ولا أنسى ذلك اليوم الذي فصّل فيه اثني عشر قميصاً من الحرير دفعة واحدة ، وكان محمد شخصية على قدر كبير من الاتزان والوجاهة ، أما الشخص الثاني الذي حظي بغرفة منفصلة فهو والدي، وكانت غرفة كبيرة مطلة على الشارع تستخدم ظهراً للمقيل ، ولا يشارك والدي فيها سوى الضيوف المرموقين، وقد وفد إليها مرة واحدٌ من كبار تجار الهند فأبهرنا برصه عشرات القوارير من العطور المتنوعة على طاولة الزينة وطوال الأسبوعين اللذين قضاهما الرجل كان من في الدار غارقاً في عطور الرجل الذي يتظاهر بأنه لا يشعر بتناقص عطوره ومن الجلي أنه كان سعيداً بذلك فهناك ما يشبه التواطؤ بينه وبين المقيمين وكان الخوف كل الخوف أن يشعر العم علي بذلك فهو لا يعرف التسامح في مثل هذه الأمور وعدالته قاسية رغم أن قسوته عادلة ، وفي أحد الأيام أمر السائق علي ناصر أن يأخذ الأطفال في نزهة على البحر بالسيارة «الاوبل» الجديدة التي لا تزال روائح كسائها الجلدي في أنفي إلى اليوم، وكانت «الاوبل» في تلك الأيام ملكة السيارات وكان البسطاء من الناس إذا سألته عن حاله يجيبك بالقول (با يفتح الله وبانشتري اوبل).. المهم أنه بعد صدور الأمر اندفعنا كالوعول وكان أن أحرزت الكرسي في المقدمة بجانب علي ناصر، الذي على رغم قصره يشمخ وراء المقود كأنه الجنرال مونتجمري ولم يخف العم علي سعادته لسعادتنا حتى أنه ظل يتابعنا من نافذة البيت حين وصل ابنه البكر «بدر» رحمة الله عليه فأمرني بالنزول والركوب في المؤخرة فرفضت وعلت أصواتنا فنزل العم على متسائلاً: من الذي قعد قبل الآخر فقلت أنا فقال لابنه لا حق لك فثار غضبه لأنها سيارة أبيه وليست سيارة أبي فرفض العم علي رغم خجلي وعرضي للذهاب إلى الخلف، وقد عاد بدر مغاضباً إلى البيت، وكان ذلك واحداً من الدروس الكبيرة في حياتي ولم يغادر ذاكرتي أبداً .. ألم أقل إنه كان قاسياً في عدالته وعادلا في قسوته.
أختم بمقال اليوم حديثي عن هذه الشخصية الرائعة التي أقول بحق إنها مع توأمها الشيخ عمر قاسم العيسائي قد ألهمتا أجيالاً من أبناء يافع لاقتحام عالم الأعمال الحديثة بثقة وإقدام ومغامرات محسوبة أحياناً وغير محسوبة في أحايين أخرى «وبالنجم هم يهتدون»، وكان الشيخ علي ولا يزال وقد نيف على الثمانين التي قال عنها «لبيد»:
إن الثمانين وبُلّغتها
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
أقول إن العم علي ما احتاج، وإن شاء الله لن يحتاج، إلى ترجمان لأنه يلتقطها وهي «طائرة»، ولن أعرف أنا ولن يعرف أحد كيف يدير إمبراطوريته، فأي شيء يضع يده أو رجله عليه يتحول إلى ذهب عيار 24 قيراط- اللهم لا حسد- وإذا كان هناك من يعرف فليقل لي، لأن عدن بحاجة ماسة إلى معرفة نجومها الذين رحلوا في الكون والفضاءات كما ترحل النجوم والمجرات.
ذات مرة، سألت مجلة سعودية الشيخ عمر قاسم العيسائي عن تقديره لثروته فقال: لا أدري .. ولكن .. عدة مئات من الملايين. أما الشيخ عليفهو لا يتعامل مع الصحافة والصحفيين ولا يحب أسئلة الأرقام، وقد اشتقت إلى أخباره مرة وأنا في العراق فوجدتها في مجلة وهو يفتتح مصفاة للبترول في الإسكندرية، ومرة أخرى رأيت صورته في خيمة بجانب بيته المصادر في يافع، لأنه يأبى السكن في مئات البيوت المفتوحة أمامه بالحب والترحاب، لأن له بيتاً وذكريات لن يأخذها منه أحد، ولم أر في حياتي محارباً في الحقوق مثله. أسأل عنه في صنعاء فيمنحني المانحون عنوان المستشفى اليمني الألماني، في تعز يحيلونني إلى الجامع الكبير الذي بناه، في عدن يقولون لي اسأل عنه في جامع البريقة، حيث تنتصب المآذن التي تشاهد من المنصورة ، اذهب للسلام عليه في جدة قبل 4 سنوات فأجده قد اشترى أحد القصور السابقة يستقبل المحبين فيه بمناسبة عرس أحد أبنائه، ولتواضعه الجم تشعر أنه يقول لكل ضيف: نحن الضيوف وأنت رب المنزل .. أسأل عنه في بيروت السبعينات من القرن الماضي فيجيبني لبناني يحرس عمارة له في الحمراء:
هيدا شو يا عمي.. والله يعلّم اللبنانيين الشطارة. أراه في يافع وقد شرع في بناء بيت على ذروة جبل «الحقب» الذي يفكر النسر خمس مرات قبل أن يطير إلى هناك.. أسأل الشيخ محمد منصر العيسائي عنه فيقول لي: والله يعمل 18 ساعة في اليوم ثم يرتاح عندما يتعب على هواه. بالصدفة التقيته في مسجده بباب شريف في جدة وقد غبت عنه زهاء عشرين عاماً، تغيرت خلالها وزاد وزني ثلاثين كليو منذ آخر مرة شاهدته، ومع ذلك يقول لي فوراً: فضل علي، ثم يأخذني من يدي إلى الغداء كأنني فارقته منذ ساعة، يالها من ذاكرة لا تنسى. في القاهرة، كان يأتي في الستينات ويحجز في هيلتون النيل، ولكنه ينام مع الطلاب في شقة أخيهمحمد وتكون بيجامته جاهزة تحت البدلة، ثم تأتي المشويات والحلويات إلينا من كل حدب وصوب، ويا ليتك يا عم علي لا تفارقنا أبداً، ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه.
في ديسمبر الماضي همس الأخ محسن النقيب، وكيل محافظة لحج «أخي» في أذني أن محمد علي عبدالله العيسائي وافق على احتياجات الهيئة التعليمية في يافع كلها، فقلت له: «إن هذا الشبل من ذاك الأسد» وتذكرت احتياجات مدرسة قعطبة قبل خمسين عاماً، وقل للزمان ارجع يا زمان، وقد اكتشفت أن الشيخ علي بعدالته القاسية وقسوته العادلة يطبق بيت الشعر العربي القديم:
حسنٌ قولُ نعم من بعد لا وقبيحٌ قولُ لا بعد نعم
و.. حيا الله ذاك الزمان