عصر زايد

الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله
الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان رحمه الله

شيّعت الإمارات والعالميْن العربي والإسلامي عصر أمس صاحب السمو الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رحمه الله – إلى مثواه الأخير عقب حياة حافلة بجلائل الأعمال، يُضرب بها

المثال وتشد إلى أفيائها الرحال.

كان العصر عصر زايد في هذه المنطقة من العالم التي أدمنت التشتّت فأهداها الوحدة، ونزعت إلى الشقاق فمنحها السلام والطمأنينة، وأجادت الهدم فعلّمها البناء، وافتقدت الحكمة فكان لها خير الحكماء، وهامت بالقول دون فعل فعلّمها الفعل الكبير والقول القليل.

نعم… كان عصر زايد بامتياز، عصر الإقدام والإحسان، عصر التشييد والعمران، عصر العلم والعرفان، عصر الصناعة والإتقان، عصر بناء الإنسان.

صعد البدوي العروبي الذي لم يحنِ رأسه لغير الله من قاع الفقر إلى سماوات الثورة دون أن يبطُر، وجمع حواليه القلوب دون أن يَقهر، ولم يقل أبداً أنا فعلت وعملت بعلم أوتيته من عندي، وإنما قال عملت بتوفيق الله سبحانه وتعالى، وأُعْطينا بفضل من الله، وسرنا بنور من الله، وبهذا الإيمان العميق فاض الينبوع من الأعماق خيراً كثيراً ميسّراً أنّى سار وأنّى اتجه، فقد كان الأساس مُحكماً شواهِده على الأرض ومنابِعُه في السماء، ومن استمسك بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها.

الثقة بالنفس بعد الإتكال على الله كانت من أنوار زايد في الحياة، فحين قيل له من الخبراء أن أرضك يا صاحب السّمو لا تصلح للزراعة ولا تـَقـْبـَلُ الإخضرار، لم يقل لهم إني أعلم ما لا تعلمون، وإنما قال: “سنحاول ونجرّب”، فما لبثت الأرض العاشقة لأهلها أن اهتزّت وربت على يديه ففاضت إخضراراً، وازدهرت ثماراً. ولم يكن ذلك تحوّلاً دون تعب، أو بناء على غير قاعدة، وإنما كان عملاً مؤسّساً، استصلاحاً وتخصيباً وشبكات ري ورعاية ومتابعة وتوفيراً وتقنيناً للماء سر الحياة. وهذا النموذج على وجه التحديد يَعكس خلاصة تفكير زايد ومعنى ريادته واخضرار قلبه الشاعر الذي كان لا يصدُر عنه إلاّ كل ما هو أخضر ومليء بالحياة.

في قاموس زايد لا توجد الأثرة وإنما الإيثار، ولا البغضاء وإنما المحبة، ولا الإنتقام وإنما السّماح، ولا الإستحواذ وإنما العطاء: “كأنك تعطيه الذي أنت سائله”.

المواهب القيادية لا تأتي من فراغ، وإنما هي ملكات تصقلها التجربة ويُحسّن موازينها بعد النظر، والقدرة على تقييم الموقف وتقويمه، وتجنّب مواقع الزلل منه. وقد كان زايدُ أستاذاً في كل ذلك، شهد له الخصوم، وأُعجب به المحبّون، وسار على دربه المريدون.

لنستمع إلى سمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم في شجنه الراثي: “بك يا سيدي شَمَخَتْ نُفوسنا، وعلت هممنا، ورفعت الإمارات رأسها بين الدول.. كيف لا نشمخ وأنت العربي الصافي العروبة، والمسلم الصادق الإسلام، والزعيم الذي ورث المناقب كلّها وأضاف إليها، والسياسي الذي ربط السياسة بالمبادئ والأخلاق وسار بها فكراً وسلوكاً في قومه وأمّته… كيف لا نشمخ بك وأنت تسري في كل شيء جميل في حياتنا مسرى الدم في العروق؟ كيف لا نشمخ بك وقد قدت سفينة الوطن وسط بحور متلاطمة، وأنواء عاصفة، فكانت صلابتك ورؤاك طريق النجاة إلى بر الأمان؟”.

الشموخ والصلابة والأخلاق والرؤى التي هي الحكمة تلخص مسيرة القائد وإنجازاته وإلهاماته وتراثه الذي سيظل هادياً ومرجعية لا غنى عنها للبصر والبصيرة وللأجيال الحالية والقادمة.

كان زايد هو “السهل الممتنع” يجسّد الرفق وينبذ العنف، يختار الحركة ولا يأنس إلى السكون، ويمقت الجمود، سهل في استشعاره للخير والحق والجمال، ممتنع على التقليد، فكان نسيجاً وحده، وكان شاعراً بأوسع معاني الشاعرية. وأتذكر الشاعر (سعيد عقل) من على منبر المجمع الثقافي في أبوظبي وهو يخاطب الجمهور مندهشاً: “أيها السادة: إن مدينتك هذه من صنع شاعر”.

رحم الله زايد بن سلطان ولنا جميعاً الصبر والسلوان.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s