في ذكرى رحيله: البردوني.. قصة حب لاترحل

عبدالله البردوني
عبدالله البردوني

في الثلاثين من اغسطس الماضي حلت الذكرى الخامسة لرحيل شاعر التنوير والتمرد ومعزوفة الحياة النابضة عبدالله البردوني، الرجل المفكر الذي كان يقبض على الحقيقة حسب رؤيته المخلصة وبقدر مايتاح له من معرفة ثم يكسوها ثوب الفن شعراً أو يجلوها في إطار البلاغة نثراً، وفي كلا الحالين تجد لديه مالا تجده عند غيره تلك النار المقدسة التي تجلو انحيازات الوالغين، وتفقأ أعين المدعين، وتحشو افواه الكذابين، وما أكثرهم في مراحل «النضال» وفي سلالم التزلف والتزحلق صعداً.

كان البردوني عيني صنعاء التي بهما ترى ابناءها المتعبين الذين يهبونها أغلى ما في حياتهم تجد هؤلاء الذين لايهتم بهم «كتبة» التاريخ يتبوأون في شعره مكاناً عليا، صورهم مرسومة بدماء قلب الشاعر الذي كان يعد نفسه واحداً منهم، فيما هم يعدونه مناراً لهم واستاذاً ورائداً لا يكذب أهله.
لكم كان يحب المستضعفين ويفتح لهم قلبه ويرهف لهم أذنيه، يلتقط موسيقى الشعر من افواههم ونبض المعاني من معاناتهم، يتشممهم كأنهم زهور الربيع في الروابي، ويفرح بهم كأنهم ينابيع الوديان الخضراء.

لم يكن يتصنع ذلك، وربما لم يكن يعيه، فقد جاء مثلهم من قاع البؤس، وذاق أكثر منهم معاناة اليتم ومحنة العمى، والاغتراب عن الأهل ومسقط الرأس، وعرف الجوع الكافر، وألهبه الظلم ولما يزل غضاً طرياً، فعجم عوده واستهان بمصيره في المواجهة في مختلف المراحل.

كانت صنعاء عقب ثورة 1962م تمور بالاحداث وتحتدم بالمعارك ويرتادها الثوار والمناضلون والمرتزقة والأفاقون وبدا في كثير من الأحيان كأن لا شيء ثابت في هذه المدينة الاسطورية الدهرية سوى جبليها «نقم» و«عيبان» وعبدالله البردوني.

إنه «هوميروس» اليمن ولكم هو شبيه بـ«هوميروس» اليونان الذي كتب «الالياذة» تخليدا لقومه وتغنياً بمآثرهم وكذلك فعل شاعرنا.
كان تنويريا شجاعاً ومقاتلاً، لان هناك الكثير من هذا الصنف الذين لا يملكون الشجاعة ويخضعون للإبتزاز، وهو لم يقبل على نفسه تلك الدنية قط، فهو يجهر بما يؤمن به، ويؤمن قولاً وفعلاً بما يجهر به، ولأنه قد اجتنى من التعليم التقليدي ما يجعل أسلحته في المواجهة أمضى، وعرف من خبايا المتاجرين بذلك التحصيل ما يجعل أمثال هؤلاء مكشوفين له كأنما رفع عنه الحجاب، فقد كانوا يتهيبونه ويتجنبونه، فلم يكن كما قال الشاعر «لساني وسيفي صارمان كلاهما» وإنما كان لساناً صارماً،«ومن يؤت العلم فقد أوتي خيراً كثيراً».

وكان متمرداً على العادات البالية وعلى البلادة في الفكر والعمل، فكان الدأب ديدنه، والإنجاز مرتقاه، والتحصيل نبعه ورفض التصنع تحديه الدائم.
في ذكراه الخامسة نستعيده في الذاكرة وفي الضمير قصة حب لا ترحل، ومعزوفة حياة لا تكف عن النبض.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s