لم تتردد كلمة في أفواه الناس الذين عبّروا عن حزنهم الدفين ومشاعرهم الصادقة أكثر من كلمة “الأب” في نَعيِهم للراحل الكبير الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان – رحمه الله تعالى.
هذه الأبوّة العامة المتمكنّة من نفوسِ خاصة الناس وعامّتهم تشير بدقة إلى موقع الراحل من شعبه ومن أمته ومن الإنسانية، وإلى دوره في الحياة، ورسالته في العمل والإنجاز. الأبوّة هي الإيثارُ مصحوباً بالحبِّ الغريزي لكي ينمو الأبناء في أفضل الظروف المتاحة ليكونوا إضافة للحياة لا عبئاً عليها، لذلك يترحّم الناس دائماً على من أحسن تربية ذرّيته ويتأسفون على أولئك الذين أساؤوا التربية. فبموازين الإرتقاء وبكل الموازين الممثالة لا يمكن استمرار الحضارة وازدهارها إلاّ بإحسان التربية، فإذا كان الناس يحمِدون الفرد الذي يقوم بمسؤوليته أولاد المباشرين، فكيف بمن ينهضون بشعوب بكاملها ويشعّون على محيطهم وعالمهم بالمثل الصالح والقدوة الحسنة والإنجاز المبين؟!.
أليست التربية الصالحة والقدوة المُلهمة هي اللُّحمة التي تتماسك حولها العائلة في مفترق الطرق، وحين تحلّ النوازل الثقيلة وتستقيم بذلك أمورها وتنفتح أمامها آفاق الصلاح والفلاح. وقد لاحظ العالم ذلك في البيت الإماراتي الذي بُني حقاً على التقوى، فكان الأسرة الواحدة في استقبال العزاء بالراحل الكبير، رأس الأسرة والوالد المؤسس، ثم كانت القدوة الحسنة والإحساس بالمسؤولية والثقة بذلك الانتقال السّلس للسلطة، وهو أمر لو تعلمون عظيم، ففي البلدان التي تفتقد روح الأبوّة ولا تحسن التربية السياسية تكون قبل أن تصل إلى هذه المواصل قد افتقدت الإحساس بالعدل وإرساء مكارم الأخلاق التي يقول عنها أمير الشعراء:
وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت = فإن همُ ذهبت أخلاقهم ذهبوا
زايد لم يقل ما قاله لويس الرابع والعشرين في فرنسا: “أنا ومن بعدي الطوفان” فهو قبل أن يرحل كان قد أكمل بناء كل السدود التي تحوّل أي طوفان إلى النماء والخير والخضرة والمحبة، وهو لم يقل ما قاله أحد كبار شعرائنا الأقدمين: “إذا متّ ظمآناً فلا نزلَ القطر”، وإنما قال ما قاله رهين المحبسين (أبي العلاء المعرّي):
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي = سحائب ليس تنتظم البلادا
السياسي الألماني الكبير (جيرهارد شويدر) لاحظ بذكاء البُنية التحتية السياسية التي عمل زايد على إنجازها لينهض عليها صرح الإمارات فقال: “لقد مهّد الشيخ زايد السّبل لمستقبل دولة الإمارات القائم على السّلام والإزدهار، ونجح بحكمته العظيمة ورؤيته الثاقبة وتفانيه الشخصي الذي لا يفتر في تحديث دولته وتعزيز هويتها الثقافية في ذات الوقت. ولعلّ التأثير الإيجابي للإستقرار الناجم عن ذلك يُمكن استشعاره إلى أبعد من حدود الإمارات، ولقد جلبت إنجازاته السياسية والشخصية العظيمة له ولبلده احترام وتقدير العالم كلّه”.
ويقول البروفيسور الدكتور (أكمل الدين إحسان أوغلو) أمين عام منظمة المؤتمر الإسلامي: “إن الفقيد تميّز بشخصية فذّة كان لها تأثيرها الكبير في مجريات السياسة بمنطقة الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، كما كان له دور ريادي في حركة السلام العالمية”. ومضى يقول: “كان الشيخ زايد – رحمه الله تعالى – نسيجاً وحده بين زعماء الأمة العربية والإسلامية؛ حيث أنه لم يدخل في أية مؤامرات سياسية ولكنه اتصف بالحكمة والحنكة السياسية”.
لقد لامس (أوغلو) الجرح العميق في منطقتنا العربية في ذلك التداخل بين المؤامرات السياسية التي تنبع من العجز وضعف الخيال السياسي، وتصب في التدمير وتحطيم الثقة بالنفس والوطن، وهو ما نأى الشيخ زايد بنفسه وشعبه عنه، وبين الحنكة الساسية والحكمة، وهما الطريق الأقصر إلى القلوب، وثمارها مرجوة بل مؤكدة على أحسن ما تكون الثمار، وهو ما نلمسه لمس اليد ونراه رؤيا العين في تراث الشيخ زايد، ودينه الكبير في أعناقنا جميعاً.