
كثيرون يأخذون على الرئيس الجزائري المنتخب أنه كان اليد اليمنى للرئيس الراحل هواري بو مدين، ويأخذون على الأخير أنه كان اشتراكيّ النزعة، وحليفاً قوياً للمعسكر الشرقي. بعض هؤلاء لا يزال يعيش في مرحلة الحرب الباردة، وتع شش في رأسه ضوابطها وموازينها، على الرغم من أن تلك الحرب قد أصبحت في خبر كان، والبعض الآخر لا يستطيع أن ينسى ما عانت الشعوب على يد الأنظمة الشمولية، ومن دون شك فإن نظام بو مدين كان واحداً منها أو قريب الشبه بها، وأن بوتفليقة كان شريكاً في الحكم والنظر، ولهؤلاء نقول أن مياهاً كثيرة جديدة قد تدفقت إلى النهر، وهيهات أن يُستعاد الأمس ولو ذرفنا عليه دموع الغفران أو دموع التماسيح، سيّان.
ثم إننا نقول لهؤلاء وهؤلاء لا تأخذونا بالصوت العالي وتفسدوا المذاق بكثرة البهارات التي لا تحجب فساد اللحم، فالجزائريون اليوم شأنهم شأن الشعوب السوفييتية، يبكون مرحلة مرت بمالها وما عليها بعد أن جاءهم من لم يرع فيهم ذمة، فقوم تخطفوا أموالهم وخيرات بلدهم، وآخرون تخطفوا دماءهم وأرواحهم، ولعلّهم يرددون بيت الشاعر العربي:
ربّ يوم بكيت منه فلما=صرت في غيره بكيت عليه
ولقد كان في (المدينية) من الكرامة ومن الضبط والربط ومن توفر لقمة العيش ومن الأمن والأمان ما يجعل أفئدة الكثير من الجزائريين تهوي إليها، ثم إن بوتفليقة لا يملك عصا موسى فيلقف ما يأفكون، إن هو إلا مثل المجتهد، إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد، فهو في الأخير لاعب في سيرك، وليس السيرك كله، واسألوا أهل الحكم إن كنتم لا تعرفون.
ففي أحراش السياسة صلال سامة وأفاع رقطاء وذئاب غبراء وثعالب متناومة ماكرة وآكل ومأكول، حتى إن البعض ليفضل أن يقنع من الغنيمة بالإياب، لأن سلامة الرأس أكبر فائدة. ولقد حمدت وسيحمد غيري كثيرون لعبدالعزيز بوتفليقة هذه الشجاعة الوطنية والحنكة التي جعلته يعود إلى عرين الأسد كما عاد محمد بوضياف قبله، وإلا فقد كان له من دعة العيش وانبساط مجال الرؤية والإحترام الذي كان يلقاه أينما حلّ ورحل ما يجعله في غنى عن هذا العناء، فما بينه وبين السادة الذين حكموا الجزائر بعد بومدين مثلما كان بين المتنبي وبين سيف الدول حين خاطبه:
كم قد قتل وكم قدمت عندكم=ثم انتفضت فزال القبر والكفن
بوتفليقة… الذي رأى
2 مارس 2004
عرفت فخامة الرئيس الجزائري عبدالعزيز بوتفليقة في مرحلة (بيات شتوي) ممتد، وما أدراك ما قسوة مثل هذا البيات بالنسبة للسياسيين المحترفين الذين ألفوا الأضواء وألفتهم، وخبروا صبابات السلطة وخبرتهم، ولكن ما ميّز بوتفليقة الذي ينطبق عليه قول أبي فراس الحمداني:
أسرت وما صحبي بعزل لدى الوغى=ولا فرسي مهر ولا ربه غِمر
أقول: إن ما ميزه عن هؤلاء وهؤلاء، أي أولئك الذين يسخطون من دون جدوى، وأولئك الذين يحلمون من دون معنى، أنه كان أمة “وسطاً” لوحده، لأنه كان يختزن في إهابه القصير ما يختزنه السيف وهو في غمده، وأنت لا تأمن متى ينجرد وينصلت، و “وسطاً” لأنه لم يغادر الواقع السياسي، وكانت رجلاه ثابتتين على الأرض، فلا هو قد غار في الأعماق السحيقة من اليأس، ولا هو قد طار بأجنحة الخيال من الوهم، ولكن بدا لي – وهو يحسب كلماته كما يحسب الصيرفي البخيل جنيهاته الذهبية – أنه مثل جبل الجليد، حذار أن تغتر بعمامته البيضاء المتهادية على سطح الماء وإلاّ كان مصيرك مثل (التايتانيك) إن هي إلا ضربة واحدة… و يا من ينقذني.
أما اللطف اللطيف، والأدب الجم، والإصغاء الحسن فحدّث ولا حرج، ولكن استعد عقب ذلك لفصاحة لسان عربي مبين، ولمنطق متماسك تسنده خبرة ميدانية عريضة، وشيئاً فشيئاً تجد فخامة الرئيس قد أخذ يحلق في أجواء المستقبل كأنه يسبح في سماء زرقاء صافية.
ولقد دُهشت ذات مرة بتحليقة من هذا القبيل حول مصائر العرب، فاستأذنته في نشر ما سمعت، فاعتذر عن ذلك لأنه منذ رحيل الرئيس هواري بومدين لم يفتح فمه ببنت شفة، وكان إذا أشار إلى بومدين فبإجلال وإكبار لا يوصف، فلما ألححت عليه قال: “شريطة أن تكتب أنك نقلت الكلام عن مجلس عام، وأنك لم تستأذني”. قلت له: “لك ذلك”، وشكرته على حسن ثقته.
عبدالعزيز بوتفليقة هو من صنف “الذين رأوا”، وكان لديه من الوقت ومن الحدس والإلهام ما منحه فرصة ذهبية لتأمل يشفي القلب ويقدح العقل، وأغلب الظن أنّ مسارات هادية في الجزائر ستتشعب عن ذلك الينبوع.