تقديم بقلم الأديب والشاعر الأستاذ/ فضل النقيب
للأستاذ علي محمد الزريقي مكانة كبيرة في نفسي كإنسان حضاري وكوطني رحب الأفق، أبعد ما يكون عن التعصّب والعصبية وأقرب ما يكون إلى الفطرة السليمة وروح الحوار وقبول الآخر، كما ان مكانته الرفيعة في عالم التعليم الذي وهب حياته له قد جعلته دائماً قريباً من النشئ المتطلع إلى المعرفة وإلى القدوة الحسنة وإلى التفهم والتدرّج والدهشة التي تبتعد عن الجمود والتكلّس المعرفي. ولقد زرته مراراً في مدارس أبوظبي حيث يعمل مديراً فشعرت أنه النموذج الذي نفاخر به في العطاء وفي صلاتنا بالمجتمعات الشقيقة، كما لاحظت أن إدارته وسلوكه وتواصله مع الآخرين هي تجسيد لنموذجه.
هذه مقدمة لا بد منها للفهم العميق لعمله الذي بين أيدينا والمعنون (الناقلة بلو أوشنز) فصول من رواية يمنية مفتوحة – ذلك أن مدار هذا العمل وفحواه إدانة صريحة ومباشرة للشمولية السياسية والقهر الاجتماعي والتخريب النفسي والتدمير الاقتصادي وتحويل الحياة إلى كابوس والناس إلى أشباح والوطن إلى ساحة مطاردة للصيد والقتل والاستباحة ورمي الناس لكي يكونوا طعاماً للأسماك بدلاً من أن تكون طعاماً لهم.
أحداث العمل تدور في مدينة عدن في فترة السبعينات من القرن الماضي والتي شهدت انتهاكات غير مسبوقة لحقوق الإنسان، نَزَحَ على أثرها الآلاف من الكوادر إلى أي مكان وكل مكان، وكان من بين هؤلاء الناس علي الزريقي نفسه وكاتب هذه السطور، ولا يزال الناس حتى يومنا هذا يعانون من الآثار النفسية والعقلية والأخلاقية لتلك المرحلة الكئيبة الجارحة للضمائر والقيم. ومن هنا فإن الكتابة المتبصّرة والشفافية المرهفة والموضوعية الهادئة والقراءة المتأنية لتلك الأيام التعيسة التي كانت تسمى (مجيدة) هي من ضرورات العلاج النفسي للناس الذين عاشوا تلك المرحلة، ولأجيال لا تزال تعاني من آثارها وأعراضها. وفي تقديري أن العمل الذي بين أيدينا يحاول أن ينهض بهذه المهمة العسيرة والتي لا بد من السير بها إلى أقصى مدى يمكن بلوغه، وحثّ كل من يستطيع الإدلاء بشهادته. ولكي لا يتم اختطاف العقل والضمير مرةً أخرى كما جرى لبطل هذا العمل علي سعيد مقبل الذي جرى اختطافه وتغييبه أو “لحسه” حسب تعبير تلك الأيام وفي رواية أخرى تكتيفه وربط حجر ثقيل في ساقيه ثم رميه في لجة البحر طعماً للأسماك؛ الأمر الذي دفع زوجته للتعبير عن مصابها الفادح برسالة مؤثرة إلى “السيد البحر” ومن في ضيافته من الأحياء من بين البشر الذين يجوبون بحار العالم، وقد وضعت الرسالة في قنينة أحكمت سد فمها لعلّ الله أن يجعل لها مخرجاً، وقد جاء في الرسالة التي وَقعَت لاحقاً في يد البحار (جون وليامز) على الناقلة (بلو أوشنز):
“أنا سيدة يمينة من أهل عدن، خرج زوجي من البيت ولم يعد حتى الآن، كان ذلك منذ عامين، خلالهما طرقت أبواب القادة والمسؤولين الأمنيين، وقفت ذليلة مع أولادي الأربعة أمام الإدارات الأمنية، الكل يحيلني إلى الكل، علمت خلال بحثي المضني أنهم تخلصوا منه، أكد لي أكثر من واحد ممن نعرفهم أنهم ربطوه إلى حجر ثقيل، أخذوه إلى خارج الميناء في قارب شرطه وفي عرض البحر رموه مع الحجر، أدخل البعض في قلبي بصيص أمل، قالوا: “لا خوف عليه، كان يتقن السباحة والغوص، رما يفكّ الحبال بسرعة حال وقوعه في الماء ويتخلص من الحجر، وربما تلتقطه إحدى السفن”. أتمسّك بهذا الأمل الواهي الباقي، عليك أيها الإنسان قارئ رسالتي، أدع لي بالصبر والثبات، أياً كان دينك ومذهبك.”
التوقيع:
أسرة علي سعيد مقبل
العنوان: كود بيحان
الشيخ عثمان – عدن
ومن هذه المأساة، ومن هذا المشهد نسج علي الزريقي عمله الذي بين أيدينا في قالب روائي جمع بين عدد من فنون القول، فهو شهادة على التاريخ حية ومباشرة على الهواء كما يقولون، حتى أنه يوثق الكثير من الضحايا بأسمائهم الحقيقية، وهو متخيّل بالصياغة الفنية لمسرح الحدث وخاصة الناقلة (بلو أوشنز) وملاحيها الذين أبدوا قدراً كبيراً من التعاطف مع علي سعيد مقبل وأسرته، وبما يجري في مدينة عدن، وهو أشبه بالتحقيق الصحفي الذي يجمع شهادات متنوعة تحاول قدر الإمكان أن تعيد بناء المشهد الذي كان في لقطه بانورامية متسعة المدى.
لقد كان اختيار (الناقلة بلو أوشنز) مسرحاً ثانياً للحدث بجانب المسرح الأول وهو مدينة عدن بمثابة رمز للحرية مواز لعدن التي هي ابنة البحر والمحيطات، والتي جرى إغلاقها آنذاك بصورة قسرية، وتحطيم روحها وتطلعها العالمي وتزييفها فأصبحت خلال فترة وجيزة من الزمن تجهل ما يجري عبر البحار ولا تكاد تعرف شيئاً حتى عن نفسها.
لقد نال المدن ما نال أبناؤها، فتصحرت إبداعياً واستكانت إلى البلى والإندثار، وودّعت النظافة، ونسيت لون الاسفلت، وأضحت عماراتها متاحف للقبح والخراب، فيما سكانها يهيمون كالأشباح في ليل نسي بهجة النور، وكان ولاة الأمر وبطاناتهم المتلهفة لما تبقى في أيدي الناس شبه غافلين عن هذه المصائر الكئيبة، ينظرون بعيون متحجرة وقلوب مطفأة، خلال ذلك يفقدون إنسانيتهم بالتدريج إلا من رحم الله مثل “الرفيق غالب” الذي التقط خبر رسالة البحر من بحارة روسيين تلقت باخرتهم اتصالاً ملّوعاً من (بلو أوشنز) حول ما قد يكون نمى إلى علمها عن فقيد “كود بيحان” علي سعيد مقبل، فأخذ ضميره يتحدث بصوت عال إلى نفسه ثم إلى زوجته ناشداً الخلاص من تلك الدوامة التي كانت تعتصره عقلاً وضميراً وأخلاقاً.
مسرح الباخرة (بلو أوشنز) كان أيضاً مناسبة لكاتبنا يعبّر عن ارتباط البحّارة العالميين بهذه المدينة العريقة، وحبهم لها واهتمامهم بما يجري فيها، إضافة إلى النزوع الإنساني لديهم، و كانت باخرتهم أشبه بقرية كونية تضم أناساً من مصر وتركيا واستراليا واليونان وبريطانيا ونيوزيلندا والهند، متعددي الثقافات والأديان والألوان، ولكنهم ينتمون إلى الضمير الحي والإنسانية الحرة والعمل المبدع، وكل ذلك في موازاة جميلة بما كان يجري في عدن بصورة مناقضة، وخاصة عقب صدور القانون سيء الذكر (قانون صيانة الوطن) والذي كان بموجبه يجري اعتقال أي مواطن يتحدث إلى أي أجنبي، حتى الطالب إذا تحدث مع أستاذه العربيّ خارج المدرسة.
عمل الأستاذ/ الزريقي بعد مرافعة طويلة أمام محكمة التاريخ نيابة عن الناس الذي فجعوا في قيمهم، وأضيروا في أرزاقهم، وتشرّدوا من مساكنهم، وأصبحوا غرباء في وطنهم، يبحثون عن أوطان أخرى ترحب بهم، فهم في الداخل مذلون مهانون تطاردهم اللعنات ويوصم من تبقى منهم بالاتهامات الشائنة، والتعابير الجارحة، والمصادرات الجائرة، حتى وصل الأمر إلى أخذ عائلات الهاربين بما ذلك الأطفال ورميهم على (الحدود) في مناظر تقشعرّ لها الأبدان.
ذاكرة الزريقي تنزف في هذا العمل خارج قانون النسيان، لا تغفر ولكنها تستغفر لهم عبر نص مفتوح يحاول رد الاعتبار للضحايا، وتسمية الأشياء بأسمائها الحقيقية. إنه يتأمل في الوجوه والجلسات والقفشات وفي الذي يذهب كل يوم فلا يترك أثراً فيما يأخذ معه بعضاً من أجمل ذكرياتنا وجزءاً من أنظر عمرنا… صحيح أن الزريقي ليس روائياً محترفاً، ولكنه احتال لإيجاد شكل مقبول وبسيط وممتد ليقول كلاماً لا يستطيعه في مقالة أو كتاب نظري، وقاله هنا بلغة حياتية فصيحة، لا هي بالمتعقرة ولا هي بالسوقية، وإنما بين ذلك قواما، لذلك لا نشعر بالغرابة من منطق الشخصيات إلا في حالات قليلة، مثل حوارات (نوري) مع (غالب) في مقيل البيت بعد العودة من مقيل الأصحاب، أو ما يرد على لسان الرواية من تعزيز لرؤية الشخصيات في قليل من الأحايين مما يبدوا متأثراً بمناهج الأساتذة في الشرح وتوصيل المعنى، وهذا تأثر طبيعي لكاتب مهنته التدريس الذي يحتاج إلى طولة البال وتكرار المعنى بتناوله من زوايا متعددة.
وقد ألحّ الأستاذ/ الزريقي عليّ مراراً وتكراراً لكي يحثني على الابتعاد عن المجاملة قائلاً: “إن المجاملات قد أفسدت حياتنا العربية، ووصمتنا بالتكاذب، ولوّثت عقولنا بالابتعاد عن الحق وعن الحقائق”، وحثني على أن أكون قاسياً في نقدي بقدر الإمكان.
وأنا أسجل أن ما أسطره هنا ليس من باب النقد والتقديم الفني، فذلك ميدان له فرسانه، وإنما أنا متعاطفٌ أشد التعاطف مع جوهر الرسالة في هذا العمل، ومع الضحايا عموماً، والصامتين على وجه الخصوص.
وآمل أن هذا العمل سيلهم الأستاذ/ علي الزريقي أعمالاً أخرى تبحث في الجذور أكثر من تشخيصها لما على السطح، ذلك أن تلك التجربة لا يمكن إسناد تجلياتها إلى فرد بعينه أو بضعة أفراد فحسب، فأعشابها الوحشية قد نمت داخل سلبيات المجتمع وضعف بنيته المدينية وقابلة أعداد منه للانسياق وراء الأفكار الخلب والصيغ التي تتلبّس منطقاً مخادعاً ومخاتلاً، وتسوّق نفسها بالترهيب والترغيب. إن تلك الأفكار لم تختف ولم تبتعد عن حياتنا كثيراً، فما زالت تتسكّع كالأشباح تبحث لها عن منزل غير مأهول تسكنه وتتناسل فيه.
أبوظبي
10 يناير 2004
اح ياوجع قلبي علي مئاسي