
الصحّاف: في فمي ماء…!
المقابلة البائسة مع محمد سعيد الصحّاف وزير الإعلام العراقي السابق، ونجم الفضائيات في زمن الحرب، بدت وكأنها تجري في إحدى المقابر الجماعية الموحشة، أو أنها تعقد في فراغ سحيق بعد أن وضعت الحرب أوزارها، وتولـّت الوحوش والكواسر ما تبقى من الأشلاء، وظل هناك شاهد يبدو أنه لم يرى شيئاً أو “ما شافش حاجة” على حد التعبير الشائع.
كان مطلوباً من الصحاف أن يمدح في أي اتجاه، ولم يكن راكباً فرساً ليقول قصيدة عصماء سواء في السيد القديم أو السيد الجديد، فقد كان تمثالاً في الكآبة، مكوّماً على كرسي قديم، وكان مطلوباً منه أن يقدح، وما كان باستطاعته ذلك، فمازالت حية “الهوا” تحوم حول المكان، وهو يخشى لدغتها القاتلة. كان مطلوباً منه أن يُضحك الناس كأي مهرج في سيرك متواضع، وقد رفض أن يؤدي الدور، لأنه –ربما- اشتم فيه سخرية من تاريخه، وكان مطلوباً منه أن يبكي الناس، ولكن البكاء انعقد خلف عينيه، وما كان ممكناً أن يتدفق عبر الشاشة. مسكين الصحاف، كان أليق بشخصيته ألا تكون شخصية جديدة أبداً. لقد بدا مثل “أبي الهول” ولكن بلا أسرار وبلا غموض وبلا سياج، وعائدات اقتصادية “أبو الهول” من الرماد.
لقد أدرك بالغريزة المدربة أن طريقه شائك حيثما اتجه، لذلك ظهر كمن في فمه ماء “وهل ينطق من في فيه ماء”؟ إن أي إجابة حقيقة أو اجتهادية كانت ستقذفه بأسئلة أشد وقعاً من صواريخ “توماهوك”، وفيه ما يكفيه وزيادة، ولا حاجة لديه إلى تجربة المجرّب، وقد اكتوى من الجنبين “فعلى أي جانبيه يميلُ”، وهو يعرف أصحابه جيداً حيث ينطبق عليهم الأثر “إنك لن تكون مؤمناً حتى يأمنك عدوّك، فكيف إذا لم يأمنك صديقك”.
أما التاريخ – الذي استند إليه الصحّاف طويلاً – فهو يعرف أنه متاهة الحقائق وجغرافيا الأساطير، ولا يبقى منه صدق أو كذب سوى ما يكتبه المنتصرون. كنت أتوقع أن يقول الصحاف إضاءة ترضي الضمير، سواءً باتجاه الماضي أو الحاضر أو الذات، ولكنه تحصّن في كبرياء زائف، وإجابات جوفاء، وحكمة جاءت متأخرة بعد خراب (البصرة) كما يقول المثل العربي.
السؤال: لماذا قبل أن يظهر إذا كان لا يرغب في الحديث؟ أرجّح أن يكون ذلك للإعلان عن “العدالة الأمريكية” الرحيمة. أما السؤال الذي غصّ به فهو القول إن الناس ينتظرون حديثه أكثر مما ينتظرون حديث صدام، لقد كادت عيناه أن تخرجا من محجريهما، فلماذا تقليب المواجيع أيها اللوامع من المذيعين.
علوق وليس علوج..!!
4 نوفمبر 2006
لا أدري ماذا فعل الزمن بصاحب “العلوج” محمد سعيد الصحّاف، آخر وأشهر وزير إعلام في عهد صدام حسين، وإذا كان لأية حرب فاكهة فإن الصحاف قد كان فاكهة تلك الحرب غير المتكافئة، وحين عجزت جيوش النظام عن إدارة حربها، فقد وجد الصحاف نفسه في فوّهة المدفع الإعلامي، فأدار الحرب بطريقته البارعة في الهُزء بالأعداء، واستقاء المعلومات من الهواء ومن أقبية التاريخ ودهاليز اللغة، وكان مسرحه المكشوف في الهواء الطلق استعراضياً بامتياز، لأن الوزير لم يكن من نوع أولئك الذين كانوا يحضرون معه أحياناً من الذين لا يعرفون “كوعهم من بوعهم”، فقد كان مؤهلاً بلغة عربية فائقة القوّة، ولغة إنجليزية لا غبار عليها، وسرعة بديهة، وخفة ظل، وجرأة متقحمة ذَرِبَة اللسان، ثابتة الجنان، ومع ذلك فقد خذله الزمان، وفقاً لبيت الشعر السائر: لا تلم كفي إذا السيف نبا=صحّ مني العزم والدهر أبا
وكان الملاحظ أن صاحب “العلوج” قد حظي باحترام وتقدير ألدّ أعداءه، وهو الرئيس بوش، الذي كان يقطع اجتماعاته لكي لا تفوته مسلسلات الصحاف، وفي الأخير سهّل له الأميركيون طريق السلامة بعد احتلال بغداد، التي كان يؤكد صمودها، والقنابل تنفجر حواليه، ثم فصّ ملح وذاب، حتى خرج من بطن الحوت على شاطئ الأمان، وهو يُتلعُ لسانه للزمان وأهل الزمان: إذا شاء أن يلهو بحلية أحمقٍ=أراه غباري ثم قال له الحقِ. ما عينا يا “أبا زيد” فقد كنت من جماعة طرفة بن العبد: “إذا الناس قالوا من فتى خلت أنني=عُنيتُ فلم أحجم ولم أتبلد. على كل حال الصحاف ليس موضوعنا، ولا “العلوج” مبتغانا، وإنما هي وقفة مع السيناتور الديمقراطي الأميركي جون كيري، الذي خسر معركة الرئاسة الأخيرة أمام جورج بوش الذي يصطلي نارها الآن، ويتمنى لو أنه لم يكسبها، كما أن كيري أشد فرحاً لأنه خسرها، وحقاً إن الإنسان لا يدري أن يوجد الخير، “وتقدرون فتضحك الأقدار”.
جون كيري يا سادة يا كرام ولفرحته بوقعة منافسه في العراق، وتزكية لنفسه ربما، استخفّ ظله، فوقف أمام طلاب في كاليفورنيا وقال لهم بلهجة صحافية حازمة “يجب عليكم الإستفادة من الدراسة إلى أبعد حد ممكن، يجب أن تدرسوا جيداً، وتبذلوا جهداً لتدبر أموركم، وإلا ستجدون أنفسكم عالقين في العراق”.
هذا هو “العُلوق” الذي حل بعد “العلوج”، ولا عزاء لمحمد سعيد الصحاف. قل قامت الدنيا الجمهورية في أميركا ولم تقعد ضد السناتور جون كيري، فالموسم انتخابي، والتهديدات بخسارة المقاعد جديّة، وهكذا وضع الرجل في المرمى بحجة أنه يسخر من الجيش الأميركي وتضحياته وأضاحيه في العراق: “وكم ذا ببغداد من مضحكات=ولكنه ضحك كالبكاء” – مع الإعتذار لأبي الطيب – واضطر صاحبنا كيري إلى الإعتذار عن زلّة اللسان “العظمى” رغم أنه لم يقل غير الحقيقة، كل الحقيقة، ولا شيء غير الحقيقة… عجبي.