هل يا ترى مارَس يحيى عمر في طفولته رعي الأغنام في تلك الجبار اليافعية المنيفة الشديدة الوعورة، وهناك بين الصخور الصلبة، وروائح الأزهار البرية، وأنسام الجبال النقية تفتقت موهبته الشعرية، فأخذ يدندن كلماته الأولى أمام غنيماته، ويبثها حزنه لوفاة أمه التي خلفته يتيماً لا حول له ولا قوة في قبضة زوجة أبيه التي لا ترحم والتي أذاقته سوء العذاب:
يقول يحيى عمر من ماتت أمه
تقنعبا يطعم الماء صبر والقوت ما عاد ينفع
يا آح من خالة خلّت فؤادي
موجعيا ربنا نسألك تنزل لها موت أفجع
|
ربما كان مزيج الحزن وقهر العذاب، والسلوان الذي تمنحه منعطفات الجبال ومنحنياتها ومهاويها هي المدرسة الأولى لهذا الشاعر الجوال القوال الذي لم يكف عن الإنشاد حتى وهو على فراش الموت…وقد ظل وفياً لمهنة الرعي التي جعلته يعشق الحرية والتأمل، وكل الذي فعله لاحقاً هو التحوّل من رعي الأغنام إلى رعي الجَمَال – بفتح اللام – فبدلاً من قطيع الأغنام أصبحت لحيى قطعان من الحور العين يرعاهن في خياله ويبثهن أشواقه ويلتمس من عيونهن النُّجَّل الدواء لقلبه المبتلي بحبهن:
صادفت جاهل بن اثنعشر
ورعمن بعده الباقيات
الصالحاتمن صادفه قال: ذا وين
اصطنعبالأرض وإلا الطباق العاليات
يهناه من عد ماله لا
دفعألوف وآلاف من صرف
المئاتالبيض قدهن دواء من به
وجعمعهن ”تخاتر” ومعهن
لدوياتالبيض يا القلب لا شي بك وسع
نسم وباسه من خلف
الرئات |
واستعاض يحيى عن التجوال في الجبال بالتجوالي عبر البحار وفي البلدان. وقد ذكر المستشرقان السويدي (سي فولت) والإنجليزي (أزون) إن (أبومعجب) عاش ردحاً من حياته في (بارودا) بالهند، ثم تنقل بين (كلكتا) و (مدراس) و (حيدر أباد)، وأجاد اللغة الأوردية إجادة تامة، حيث قدّر واضعو كتاب (غنائيات يحيى عمر) إن المرحلة الهندية في حياته استغرقت 16 ستة عشر عاماً.
ومن المعروف أن الهند في القرن الثامن عشر كانت مهوى أفئدة عرب الجزيرة والخليج للعيش فيها والتجارة معها، وكان اليمنيون على وجه الخصوص عماد جيوش الكثير من الإمارات الإسلامية في تلك الأصقاع المتصارعة – وأقدم الكتب باللغة العربية طبعت في الهند – ولا يزال أحفاد المهاجرين اليمنيين يعيشون هناك حتى يومنا هذا كما هو الحال في أندونيسيا وماليزيا.
إذاً فقد كان يحيى هناك ليس في بيئة عربية فحسب وإنما في وسط نخبة محبة للشعر والغناء، ومشجعة له بحكم الغنى وارتفاع المستوى التعليمي. والحنين إلى الجذور، وقد قام (أبومعجب) بمحاولة طريقة لكتابة شعرٍ مختلط: (أردو-أراب) نقلها المستشرق الشهير (روبرت سارجنت) ومطلعها:
حاضر باش هندي باربر شاباش
مثل الشاش أبيض منقرش نقراش
عقلي طاش… مسكين أنا ما جهدي
ويبدو أن المرحلة الهندية هي أخصب مراحل حياة يحيى عمر:
يحيى عمر قال بالله يا هنود
قولوا لنا بنت من ذي الهندية
هي من الهند وإلا من سنود
تفهم رطين العرب
بالهندية |