كان الشيخ يحيى عمر (أبو معجب اليافعي) نموذجاً لثقافة عصره ومروياته، فهو على قدر كبير من التديّن والخشوع وطلب الغفران في مطلع قصائده الغنائية، كما أنه كان شديد التعلّق بشخص النبي الكريم صلى الله عليه وسلم في خواتيم القصائد، وما كان له أن يبرع ويجلي في ميدان الغناء الشائك إلا بتلك العدّة التي يتوقّى بها سهام النقد، والتي ينفذ من خلالها أيضاً إلى قلوب العامة الذين يبسملون ويحوقلون ويرفعون أياديهم بالدعاء والصلاة على النبي عليه السلام ثم يعمدون إلى السماع والطرب على طريقة “أعط ما لله لله وما لقصير لقيصر”، وقد لاحظ ذلك أحد الشعراء الحاذقين فقال:
أهل السلى في | سلاهموأهل المساجد يصلّون |
والسّلا مشتقة من السّلو والسلوان، وقد أصبحت تدل على الفرح الصافي بعد أن كانت تدل على نسيان المُصاب وتجاوز أحزانه ومواجعه، ولعلّ في دلالة هذه الكلمة ما يدلّ على الجذر الواحد لكل من الحزن والفرح في مسيرة الإنسان وصيرورته، وكأنهما وجهان لعملة واحدة لا بد للمرء في أن يتوكّأ عليهما معاً وإلا طاح في هوّة سحيقة لا قرار لها، وأسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون، فالله تعالى الذي خلق الإنسان في كبد قد بسط أمامه متع العيش ومناظر البهجة وجماليات الفن لأنه جل وعلا لا يجمع بين عسرين.
وكانت ليحلى نظرة إنسانية عميقة في علاقة الخلق بالخالق، لعلّه توصّل إليها بإشراقاته وهو معلّق بين الماء والسماء في فضاءات البحار الكبرى وسط الأهوال وتقلبات الأحوال، لعلّها كانت إحدى ثمار قلبه العاشق الذي لا يستسيغ مذاق الكراهية ولو جاء على طبق من الألماس، وربما استقاها من بعض زهّاد الهند المنقطعين في ذلك البلد المتعدد الأعراق والأديان، أو أنه كان على إطلاع في بعض موروث التصوّف العربي… يقول يحيى:
يالله يا رباه يا مطلوب خلقك يا باعث الأرواح والنعمة عليها يشكروكمن شرقها لا غربها في كل مذهب يعبدوك ألطف بهم هم في طريق الخير دائم ما عصوك |
يطلبوك
بهذه الشفقة وبهذا الإعزام الإنساني يطلب يحيى عمر لجميع الخلق لأنهم جميعاً يسمعون إلى الله بطرق مختلفة ومتعددة، وهو يرى أن طرق الخير هي وحدها الجاذبة للإنسان الذي لا يمكنه معصية الخالق لأنه مسيّر بأمره. وبهذه الرؤية الحادبة المتسامحة يرتفع يحيى إلى سماء عالية في الثقافة الشعبية اليمنية والعربية، وينبعث مجدداً في عصرنا المبتلى بالتطرّف والأفكار الإقصائية والإلحاقية والتكفيرية كرمزٍ للمبدع ذي الثقافة والرؤية الإنسانية، وكداعية للتعايش والسلام في عالم يموج بالإنقسامات التي تهدد البشرية إذا سادت أفكار المتطرفين وتمكنوا من القرار ومن زمام الأمور.
ويعزز (أبو معجب اليافعي) نظرته الإنسانية بنظرة أخلاقية تدلل على علو كعبه في المفاهيم الاجتماعية الراقية، الأمر الذي يضفي على جماليات شعره جماليات مفاهيمه وذهنه، وفي وصاياه الأربع ما يغنينا عن أي شرح، وقد وردت في قصيدته المغناة التي مطلعها:
قال (الجمالي) مفارق لي سنين لا بد من ذا وذا ويجري على الواحدوالآن قصة جرت لي من غواني أربع طبع الغواني كذا هم يمكروا الواحد |
أربع
و(الجمالي) هو اسم أسرة يحيى عمر (بيت الجمالي) أما الوصايا الأربع فهي:
الأولة: النّذل قربه ينقص الواحد
والثانية: إن كنت قاعد ما بين الناس قع واحد
والثالثة: احفظ لسانك ولا تهرّج على واحد
والرابعة: القيل والقال ما يعلوا به الواحد
وهذ القصيدة فيها تأملات في الناس وأحوالهم وخفاياهم الدفينة ومنها:
ذي قد معه مال ياخي يكرموه وصاحب القرش ما مثله ولا واحدوإن كنت ما تملك شي مذهبات أربع لا يعرفوا اسم ولا عاد يحسبوك واحد |
أربع
لقد جمع يحيى عمر الحكمة اللطيفة والقصة الطريقة والرؤية الثاقبة العفيفة في إطار من المحبة، حيث لن يجد المدقّق كلمة فاحشة في كل شعره رغم أنه يلعب في حقل ألغام اسمه (المرأة)!.