ليس عندي شك في أن عصر (يحيى عمر) كان مليئاً بالشعراء الشعبيين والغنائيين في اليمن والخليج وفي شبه القارة الهندية التي يمكن اعتبار العديد من بنادرها الشهيرة آنذاك عربية بصورة من الصور، وخاصة (حيدر آباد) الإمارة الغنية التي قاد جيوشها ثلة من اليمنيين، ومنهم مؤسس الدولة القعيطية في حضرموت الذي حاز ثراءً واسعاً ودهاءً أوسع مكنه من تأسيس سلطنته على أسنة الرماح وأنياب النقود:
فهي اللسان لمن أراد فصاحة | وهي السلاح لمن أراد | قتالا
ولكن هؤلاء الشعراء رحلوا في الظلال ووقعوا في نسيج العنكبوت حيث مصائد التاريخ التي لا ترحم، فقد طغى ظل (أبو معجب) عليهم وكأنه عصا موسى تلقف ما يأفكون، فسارت بأشعاره الركبان والسفائن في البحار، حتى أصبح الكثيرون يتساءلون.. هل وجد هذا الرجل حقاً أم أنه من نسج الخيال… حاروا في أصله وفصله، وفي حله وترحاله، حتى جاءهم الخبر اليقين من منتدى يحيى عمر الثقافي، الذي يعقد هذه الأيام دورته السنوية في منطقة يافع مسقط راس الشاعر يحيى عمر.
والشهرة التي حازها (أبو معجب) تذكرنا بمقولة ابن جني – إن لم تخني الذاكرة – حين قرض المتنببي وما أحدثه من دويّ في عصره فقال: “حتى جاء المتنبي فملأ الدنيا وشغل الناس” أي أن الناس كانوا يخوضون قبله في شؤون وشجون وحين جاء لم يعد لهم شاغلٌ سواء، وكأن ابن جني قد استقرأ قول أبي الطيب:
وتركك في الدنيا دوياً | كأنماتداول سمع المرء أنمله العشر |
لقد ترك يحيى في عصره وحتى الحين دوياً يشير إليه بالبنان بأنه من صانعي اللطائف العذبة، ومنعشي القلوب المتعبة، وله في ذلك طرائف مبتكرة وتوصيفات عجيبة ووصفات محبوكة ومرسومة على حد السكين:
يحيى عمل قال للعشقه فنون والعشق ما هو بدحراج العيون بحر الهوى راح به كم زبون وبات يقطف من أخيار الغصون |
ماهي بمن قد تعطر ولا لمن قد كثر فيه البلش ذي بات يدحق على رأس الحنش زهر البساتين ذي يطلع غبش |
وانتعش
من هذه التوطئة اللطيفة الخفيفة الظل، الرائقة المعنى، الراقصة الأوزان، المطمئنة القافية، يدلف يحيى إلى تحية المحبوبة، فيرفعها مقاماً علياً، كأنها امبراطورة روما، ولست أدري كيف يمكن لامرأة توصف مثل ذلك الوصف إن لا تسير بين السحاب، وإن ترفض المشي على الأرض، لنستمع إليه:
سلام يا قصر يا عالي الحصون | فيك البنادق وفيك أهل | النمش
والنمش: هي السيوف القاطعة بلهجة أهل اليمن.
يا من جعيدك له أربع ينسعون | وأربع يلفون جعدك لا انتفش |
والجعد: هو الشعر الكثيف، والنساعة: هي تظفير الشعر في ظفائر وعلى العكس الانتفاش بإرسال الشعر وفق توصيف نزار قباني: “الشعر الغجري المجنون”.
وأربع يصفون وأربع وأربع يحنّون وأربع يحجرون |
يرصفونوأربع يرشون لك بالعطر رش وأربع يقولون قم سيدي تمش |
والحجارة أو المحجرة باللهجة الشعبية هي الزغردة في حال الفرح والمسرّة والمناسبات السعيدة.
وأربع يجيبون لك مبخر وألفين وأربعمية ذي يخدمون خضعوا لك الناس ذي ما يخضعون |
دخونوأربع ينادون لك مثل سندي وهندي وجملتهم حبش شجعان وأهل البنادق والنمش |
الشوش
وهكذا يأخذ الخيال بـيحيى كل مأخذ كأنه في حلم لا حسيب عليه ولا رقيب، وهو يأخذنا معه إلى مملكته هذه ساعة من زمان ننسى فيها همومنا كأننا في (ألف ليلة وليلة) نهيم مع السندباد في جزر اللؤلؤ والمرجان.