يحيى عمر قال (8)

بعد أن تمكّن يحيى عمر من ناصية الشعر و روض خيوله الجامحة وحفر عميقاً في وديانه الخصيبة حتى وصل إلى الينابيع الغزيرة، أخذ يتفنن في تقديم عروض جمالية وإيقاعية مدهشة يستعرض من خلالها مهاراته اللغوية وإبداعاته الأسلوبية ورؤيته الجديدة إلى الحياة، وإعلانه قيام مملكة الحب في دنيا الشقاء ليسكنها أصحاب القلوب الغضة المتطلعة إلى الفرح، وأصحاب القلوب الكسيرة الشاكية، ولتأدي إليها العصافير المتعبة والفراشات الذهبية وشتلات الفل والورد والياسمين، ولم تكن مملكة (أبو معجب) تخلوا من المنغصات والشكوى والفراق ولكنه كان يعالجها بالحكمة وبالتي هي أحسن، بكثير من المودة واللطف والعتاب الذي لا يجرح:

يحيى عمر قال دمعي سال
لا  هم  دنيا  ولا شي iiمال
بحق   من   زيّنك  iiبالخال
يا  راعي  الحجل iiوالخلخال
ما   تنظروا  دمعتي  iiساله
محد    مخلّد   على   ماله
يا    عاقد    الفل   والواله
خلي   ليحيى  عمر  iiحاله

أرأيتم عتاباً أرق من هذا وأكثر تحبباً وتقرباً إلى المحبوبة، إنه يكاد ينحو باللائمة على نفسه بما قد يشجع ربة الخال والخلخال على التمادي، ولكننا حين نمعن النظر في الأمر نجد أن صاحبنا قد خبر الغواني وعرف من خباياهن ما يعرفه الحكماء والمجرّبون، فليس أشق على قلوبهم من إعلان الاستغناء وها هو يقول “خلّي ليحيى عمر حاله” ثم يعاود الهجوم لأنه لا يريد لشعرة معاوية أن تُقطع، فهو إذا شدت المحبوبة أرخى وإذا أرخت شد.

أنا   بحبك   كما  المأسور
قد لي سنة في ثلاث شهور
والآن  فاح  وردك المنشور
يا  راعي  الحجل iiوالخلخال
أمسي  وأصبح  على iiبابك
واقف  مناظر  على  iiبابك
يا   من   لك  أعين  iiقتاله
خلي   ليحيى   عمر  iiحاله

لقد لامس وتراً حساساً في قلب المحبوبة التي تسعد باعترافاته وتطرب لبوحه، وتراهن على صبره حتى تنظر في أمره، وهو يدرك كأي (دنجوان) محترف أن الصنارة قد غرزت، وأن السمكة الذهبية ستبتلع الطعم المموّه، لذلك فهو يغتنم الفرصة لوياصل الكر والفر.

يا  جوز  يا لوز يا محبوب
كن   راقب  الله  iiيالمحبوب
خليت  يحيى  كما المسلوب
يا سُعد من هو لوصلك نال
يا  راعي  الحجل iiوالخلخال
لا   تحرم  اليافعي  iiوصلك
أشفق  على الصب لا يهلك
وانت   تلعب   على  iiمهلك
يفعل  على  الحجل  iiحُجاله
خلّي   ليحيى   عمر  iiحاله

لاحظ التفنن في تقصيد القصيدة وتزيينها بالإيقاعات المتناغمة لكأن أصوات الحجول والخلاخيل تتوافق موتتجاوب مع دقات قلب العاشق الواقف على الباب منذ سنة وثلاثة أشهر، فيما المحبوبة ترقص (تلعب) ساهية لاهية كأنها لا تدري شيئاً، لذلك فهو يحاول أن يشد قليلاً قبل الانقضاض.

حملت   حمل  الهوى  iiالجاير
واليم    بان   الجفاء   iiظاهر
أحين   في   آح   خلي  iiمال
يا   راعي   الحجل  iiوالخلخال
ما حد صبر في الهوى صبري
قد   أشهر  الزين  في  هجري
نا    معي   نفس   ما   iiماله
خلّي    ليحيى   عمر   iiحاله

ها نحن نكاد نصل إلى نهاية اللعبة، والغواني يغرهنّ الثناء، وعند يحيى من هذه البضاعة الكثير، لذلك فإنه سيرمي آخر سهم في جعبته ليصيب به مقتلاً:

وصالك   الجنة   iiالخضراء
لو   كنت   يا  فاتني  iiتدرا
شافعل لكم في الحشا iiقصرا
وأعطي  مية وأربعين iiمثقال
يا  راعي  الحجل  والخلخال
ونارك    الصد    والهجران
بحالتي   يا   قمر   شعبان
وابني مشاخص من الحمران
والغيد     عسكر    iiوخيّاله
خلي   ليحيى   عمر  iiحاله

إن عالم الغناء في جزيرة العرب لم يعد كما كان بعد يحيى عمر رائد المدرسة الحديثة وأستاذها المبرّز شعراً وتلحيناً.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s