استقى يحيى عمر صوره الشعرية من الحياة المُعاشة، ومن أفواه الناس، ومن التراث الشفوي الحي، واستخدم لغة حارة تمردت على اللغة القاموسية الجامعة التي ال يستسيغها عامة الناس ولا يميلون إليها، وذلك هو إنجازه الرائع في عصر كان الجمود الأدبي طابعه ومحتواه، ففي القرن الثامن عشر كان التقليد بضاعة سائدة، وكانت النخبة تجتر الأساليب القديمة دون إبداع، وخارج النقد، تحرسها وتقوم عليها كما يقوم السدنة على أضرحة الذين شبعوا موتاً، فيخاطبوهم كأنهم أحياء يرزقون.
نزل يحيى إلى هذا المعترك مسلّحاً بروحه الوثابة، وموهبته الكبيرة، ولغته الجديدة، وبجمرة العشق الأزلي التي أحرقت الملوك، ولوّعت الزهّاد، واستباحت دماء الفقراء، وكان فريد عصره كشاعر وملحن ومغني ورحالة، تسبقه شهرته أينما ذهب، ويتناقل الناس حكاياته ومغامراته، وقد أشار المستشرقان السويدي (دي سي فوت) والإنجليزي (أزو) في مقال نشراه في المجلة الصادرة عن الجمعية الآسيوية في البنجال بالهند، إن يحيى الذي أمضى فترة من حياته في (بارودا) بالهند ومنها انتقل إلى (كلكتا) و (مدراس) و (حيدر آباد) قد كاد أن يتزوج ابنته حين عاد ثانية إلى (بارودا) دون أن يعلم لولا أن الأقدار كانت بجانبه فتكشّف الأمر قبل أن تقع الواقعة.
وواضح أن المستشرقين قد استقيا هذه الحكاية من أفواه الناس الذي فتنوا بمغامرات يحيى كما يعبر عنها شعره، ونحن نعلم أن للخيال الشعبي – إذا ما أحب أو كره – تحليقات عالية. وربما تكون الواقعة حقيقية؟ وربما تكون منحولة؟ ولكن لها دلالاتها التي لا تخفى على شخصية هذا الشاعر المغامر الجوال الذي حوّله الناس إلى أسطورة أخذت تكبر مع الزمن وعصور الغناء المتعاقبة، وخاصة في زمن الأسطوانات الشمعية، ومن ثم الإذاعة والكاسيت والفيديو، وقد أحصى كتاب (غنائيات يحيى عمر) سبعة مطربين خليجيين غنوا ليحيى وهو محمد عبده، طلال المداح، إبراهيم حبيب، سالم راشد الصوري، عوض الدوخي، ابن الساحل، وحمود حلواني، كما غنى له من أساطين الغناء اليمنيين 12 مطرباً من بينهم محمد مرشد ناجي الشيخ علي أبوبكر با شراحيل، فيصل علوي، إبراهيم الماس، أبوبكر سالم بالفقيه، ومن أبناء منطقته (يافع) أحصى الكتاب 30 مطرباً غنوا ليحيى.
وتميزت غنائيات يحيى عمر الذي استطاع تجاوز اللهجات المحلية في الجزيرة والخليج فاصطنع لنفسه وللناس لغة هي الأقرب إلى الفصحى في المفردات والأقرب إلى العامية في النطق والأوزان، لكنه اجتهد فخرج بأفضل ما فيها، أقول تميزت غنائياته بالحوارات المبتكرة بين العاشق ومعشوقته، وهو يتفنن في ذلك كل التفنن:
يحيى عمر قال دلّون عليك بالله ثم بالله عليك جاوب عليّ قال با سلّم عليك |
عليكقالوا لي أن الدواء عندك يجد عاده معك أو قد أرسته لحد با اعطيك أربع قُبل في كل خد |
إذاً فالدواء الذي يبحث عنه هذا الشاعر الماكر هو دواء العشاق الشطّار وليس دواء المرضى البائسين، ومع ذلك فإنها كانت أمكر منه فواصلت:
هذا قده دين مكتوب عليك عند ابن صوري كتبناها عليك |
من موسم العام والثاني ورد والعبد هو ذي قبضها واستعد |
إذاً فالدنجوان يحيى لم يقبض شيئاً من هذه القبل الوهمية، فهي قبلٌ بالمراسلة، قبضها شخصٌ وهمي آخر، ولكن الدين تم تسجيله على (أبو معجب)، وهكذا بطلت وصفة الدواء مما اضطر يحيى لتقديم عرض آخر:
با بطّل العسكرة واحرس عليك جوب عليّ قال لي يابا عليك |
وانت واجب تقرّب في ولا طعمته ولا لمسته بيد |
الوعد
وبطلت الحيلة الثانية فلجأ يحيى إلى الأسلوب المفضل لدى العساكر
فقلت والله لا اقلبها عليك واحمل بيافع بني مالك عليك |
من المخا للحديدية أهل السنع والبنادق والعدد |
للجند
وهنا تحل العقدة بالنهاية السعيدة دائماً:
جاوب عليّ قال أنا بضحك عليك الوعد بكرة وانا واصل إليك |
كلامي امزاح ما هو وكلما تطلبه عندي تجد |
بالعمد