كان العشق وطن يحيى عمر سواء حل في (يافع) أو (عدن) أو (حضرموت) أو (عُمان) أو (كالكتا)، (مدراس) و (حيدر آباد)، كان مشغولاً بالصبابة في العيون النجل وبالسيوف المرهفة في قامات الناسء المقيمات والعابرات، وتلوّع طويلاً أمام الجدايل، ولم يهتم بالجغرافيا والأجناس، ففي وطنه الجديد لا شيء غير أعلام المحبة ترفرف على الأفئدة، بالمحبة لله تعالى في الأعالي وعلى الأرض السلام.
ذات يوم سمعت مذيع التلفزيون العُماني وهو يقدّم أغنية ليحيى يقول، يحيى عمر العُماني، تعجّبت من أين جاءته هذه المعلومة، ثم قلت لنفسي… إنه على كل حال يحيى عمر الجوال القوّال، يترك أثراً وراءه حيثما حلّ وارتحل، ولا بأس أن تدعيه الهند لنفسيها، أو تصطفيه عمان بين أبنائها، أو يَدّعي البحارة أنهم خطفوه من مدينة عرائس البحر، وإن المحيط هو وطنه، ذلك أنه أرق من نسمة، وألطف من نغمة تُسعد أي وطن، ولا تنقل عليه وهو يحمل وطنه الحقيقي في روحه، وحيثما ومتى شاء يستحضره مثل مستحضري الأرواح، فيبكي في حفرته أو بتيه لوعة أو يغني له لكي لا يغضبع عليه.
وبمراجعة غنائيات يحيى عمر اكتشفت الالتباس الذي أفرح المذيع فخلط في الأنساب – دون عمدٍ طبعاً – وذلك في قصيدة ليحيى جاء فيها:
قال يحيى عمر كم لي قرب اليوم ليلة قد دنا عاد حد بالوطن من قال أنا |
وانايا عُمانية هايم في ما حداً قال حيا يا فُلان أو فيا ليت ما كنتوا وكان |
عُمان
وطبعاً كان ذلك تسرّعا في الاستنتاج، فالأبيات شاهدة على غربة الرجل الحائر منذ الصباح، حتى أوشك الليل على الهبوط دون أن يقول له أحدٌ أهلاً وسهلاً، ثم أنه استخد تعبير “هائم في عُمان”، ونحن نعرف أن (الهيمان) هو الانلطاق بلا هدف، أي إلى “لا هدف” وهذا لا يكون إلا للغرباء، ثم إنه مذيعنا المتحمّس قد فاته إكمال القصيدة المكتوبة فقال:
يافعي قط رأسه ما انحنى | حيد يافع مكاني | والكنان
وظن أن الجزء الأكبر من هذه القصيدة وغيرها من قصائد يحيى لم يكن متاحاً أمام الناس الذين يهتمون بالكلام المُغنى فقط، وهذا عادة ما يكون عدة أبيات مختارة، ولذا وجب التنويه بأن على الباحثين أن يرجعوا إلى الأسفار في خزائنها المُصانة ومَظانّها في مواقع الأمانة، لأن الحقيقة التاريخية غالباً ما تكون مثل جبل الثلج الظاهر منه هو أصغر ما فيه، أما كتلته الضخمة فهي في المياه العمية، تصطاد هواة الإبحار السطحي، كما قد تتجبر فتصطاد العمالقة مثلما اصطاد جبل الثلج الأطلسي لؤلؤة البحار وفريدة الزمان الباخرة (تيتانيك) فأصبحت أثراً بعد عين قبل أن تكمل شهر العسل.