يحيى عمر قال (11)

إذا كانت المرأة هي وطن العشق الذي أسر (يحيى عمر) وأضناه في المقام الأول، فإن السلام والكر والفر والحنين إلى الغزوات كان عشقه الثاني، ولا غرابة في ذلك من رَجلٍ ولد وعاش طفولته وصباه وباكورة شبابه في منطقة جبلية وعرة، تتمنطق الخناجر، ولا حديث لأهلها إلا عن البنادق والرصاص والالتحاق بالعساكر، ولأتفه الأسباب وأجلّها سرعان ما تُشهر أسلحتها، وتندفع إلى الساحات القريبة والبعيدة فيما بينها البين ومع الآخرين وضدهم…لقد كانت الجبال اليافعية تعزف ألحان الحرب على الدوام، وقلّما عزفت ألحان السلام، وذلك أنها أرض طاردة للسكان لشحّة مواردها ونجاعة بيئتها وطيب هوائها، حيث تكاد تنعدم وفيات الأطفال، فينتج عن ذلك فائق من السكان يرحلون وفي قلوبهم غصّة، وفي مآقيهم الدموع، ولكنهم يتعلّمون منذ يومهم الأول “ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”، فكيف إذا كان الراحل يتيماً لا حول له ولا قوّة، هارٍباً من أبيه ومن زوجة أبيه التي أذاقته المرّ حتى لا يقاسمها الكسرة الشحيحة، فهو في هذه الحالة لا يحلم إلا بالقتال والمعادلة. وقد كان (يحيى) كذلك، فكان سفره الأول إلى حضرموت ضمن تجريدة عسكرية في سنة 1118 هـ، كما ورد في كتاب (غنائيات يحيى عمر) وعمره 21 عاماً، أي قبل 306 سنوات من عامنا هذا تزيد أو تنقص قليلاً.

ولكن (يحيى) العاشق – الذي ورث من منطقته تشبيه جياد النساء بجياد السلاح – سرعان ما قلب المجني لـ(يحيى) الجندي، فحوّل أسلحة القتال إلى أسلحة للوصال، وحوّل الغزوات لفتح البلدان إلى غزوات لأسر قلوب الغيد الحسان، مقتدياً في ذلك رؤية العاشق العذري الشاعر الشهير (جميل بن معمر):

يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ
وأي   جهاد   غيرهن   iiأريد
لكل  حديث  عندهنّ  طلاوة
وكل   قتيل   بينهن   iiشهيدُ

ويبدو لي أن يحيى قد ملّ العسكرة بعد لأيٍ، وقد نبّهته موهبته وحب الناس له إلى دروب جديدة هي أحب إلى قلبه وأدنى إلى نفسه، وبما أن موروثه الحربي يكمن في أعمق أعماقه فقد حوله بلطفاة ورشاقة إلى ميدان الحرب الجديد:

يا من جعيدك على امتانك ثلاثة مقاسم
أسود            مُخالط           iiرديم

وأعيان حمراء بترمي في سدوم iiالظلايم
رصاص       من      غير      iiغيم

والأنف  خنجر  قديمي  كم لبسته أوادم
طعن          الخناجر          iiعظيم

والصدر  بستان  فيه  الليم بالوزن iiقايم
عود            القنا           iiمستقيم

لقد حسم (يحيى) أمره وكفاه الله شر القتال وسفك الدماء، فأخذ يطارد معوّصات الشعر وترك لغيره معوّصات الطراد، لكأنه سمع قول (المتنبي):

أتنكر   ما  نطقت  به  iiبديهاً
وليس   بمنكر   سبق  iiالجوادِ
أراكض معوصات الشعر قسراً
فأقبلها   وغيري   في   الطراد

كم كانت خسارتنا ستكون كبيرة لو أن (يحيى) اختار الطريق الآخر، حيث يوجد عشرات الألوف من الناس الذي يقدمون نفوسهم حطباً للحروب، وما كنا لنعوّض لأن أصحاب المواهب الإبداعية الكبيرة لا يكادون يُعَدّونَ على الأصابع في كل عصر، فكيف بأولئك العابرين للعصور مثل (يحيى عمر)، ومع ذلك فقد مضى السلاح والمسلّحون إلى مقبرة التاريخ الصامتة، حيث ينطفئ كل شيء وتندثر حتى شواهد القبور، وما عاد يصل أسماعنا من صليل السيوف وهزيم الجيوش غير ما اختطفه (يحيى) من وقائع زمانه ووطنه لوقائع عشقه:

يقول    أبو    معجب    لقيت   اليوم   iiسلطان
لابس  “قبا” تركي ومسح أخضر مطرز iiبالذهب
والحجل     والخلخال    والبوني    متى    iiقالوا
تقول  ذا  المهدي  خرج  بالجيش  لا  بر iiالعرب
خرج   ينوش  الناس  بالبندر  ولا  هاب  iiالعنب
عاده حمق سكران شارب كأس من خمر الغضب
راكب   غزيل   الشقر  محجل  كلما  رنح  iiوثب
قربت  أسلم  عقال  لي  من  أين؟ من أي العرب
فقلت  هذا  عيق  حق  الله…  هب لي ما iiوجب
قبلة   على   خدك  خفيفة  دين  ما  فيها  iiطلب

لقد أدرك يحيى أن الحب والحرب والشعر تستقي من معين واحد هو قوة السطوة والتسلط، وإحكام السيطرة، ولكنها قل أن تجتمع لأجداد وعندهم.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s