إذا كانت المرأة هي وطن العشق الذي أسر (يحيى عمر) وأضناه في المقام الأول، فإن السلام والكر والفر والحنين إلى الغزوات كان عشقه الثاني، ولا غرابة في ذلك من رَجلٍ ولد وعاش طفولته وصباه وباكورة شبابه في منطقة جبلية وعرة، تتمنطق الخناجر، ولا حديث لأهلها إلا عن البنادق والرصاص والالتحاق بالعساكر، ولأتفه الأسباب وأجلّها سرعان ما تُشهر أسلحتها، وتندفع إلى الساحات القريبة والبعيدة فيما بينها البين ومع الآخرين وضدهم…لقد كانت الجبال اليافعية تعزف ألحان الحرب على الدوام، وقلّما عزفت ألحان السلام، وذلك أنها أرض طاردة للسكان لشحّة مواردها ونجاعة بيئتها وطيب هوائها، حيث تكاد تنعدم وفيات الأطفال، فينتج عن ذلك فائق من السكان يرحلون وفي قلوبهم غصّة، وفي مآقيهم الدموع، ولكنهم يتعلّمون منذ يومهم الأول “ولكن تؤخذ الدنيا غلابا”، فكيف إذا كان الراحل يتيماً لا حول له ولا قوّة، هارٍباً من أبيه ومن زوجة أبيه التي أذاقته المرّ حتى لا يقاسمها الكسرة الشحيحة، فهو في هذه الحالة لا يحلم إلا بالقتال والمعادلة. وقد كان (يحيى) كذلك، فكان سفره الأول إلى حضرموت ضمن تجريدة عسكرية في سنة 1118 هـ، كما ورد في كتاب (غنائيات يحيى عمر) وعمره 21 عاماً، أي قبل 306 سنوات من عامنا هذا تزيد أو تنقص قليلاً.
ولكن (يحيى) العاشق – الذي ورث من منطقته تشبيه جياد النساء بجياد السلاح – سرعان ما قلب المجني لـ(يحيى) الجندي، فحوّل أسلحة القتال إلى أسلحة للوصال، وحوّل الغزوات لفتح البلدان إلى غزوات لأسر قلوب الغيد الحسان، مقتدياً في ذلك رؤية العاشق العذري الشاعر الشهير (جميل بن معمر):
يقولون جاهد يا جميل بغزوةٍ
وأي جهاد غيرهن
أريدلكل حديث عندهنّ طلاوة
وكل قتيل بينهن
شهيدُ |
ويبدو لي أن يحيى قد ملّ العسكرة بعد لأيٍ، وقد نبّهته موهبته وحب الناس له إلى دروب جديدة هي أحب إلى قلبه وأدنى إلى نفسه، وبما أن موروثه الحربي يكمن في أعمق أعماقه فقد حوله بلطفاة ورشاقة إلى ميدان الحرب الجديد:
يا من جعيدك على امتانك ثلاثة مقاسم أسود مُخالط رديم وأعيان حمراء بترمي في سدوم والأنف خنجر قديمي كم لبسته أوادم والصدر بستان فيه الليم بالوزن |
لقد حسم (يحيى) أمره وكفاه الله شر القتال وسفك الدماء، فأخذ يطارد معوّصات الشعر وترك لغيره معوّصات الطراد، لكأنه سمع قول (المتنبي):
أتنكر ما نطقت به
بديهاًوليس بمنكر سبق
الجوادِأراكض معوصات الشعر قسراً
فأقبلها وغيري في الطراد
|
كم كانت خسارتنا ستكون كبيرة لو أن (يحيى) اختار الطريق الآخر، حيث يوجد عشرات الألوف من الناس الذي يقدمون نفوسهم حطباً للحروب، وما كنا لنعوّض لأن أصحاب المواهب الإبداعية الكبيرة لا يكادون يُعَدّونَ على الأصابع في كل عصر، فكيف بأولئك العابرين للعصور مثل (يحيى عمر)، ومع ذلك فقد مضى السلاح والمسلّحون إلى مقبرة التاريخ الصامتة، حيث ينطفئ كل شيء وتندثر حتى شواهد القبور، وما عاد يصل أسماعنا من صليل السيوف وهزيم الجيوش غير ما اختطفه (يحيى) من وقائع زمانه ووطنه لوقائع عشقه:
يقول أبو معجب لقيت اليوم
سلطانلابس “قبا” تركي ومسح أخضر مطرز
بالذهبوالحجل والخلخال والبوني متى
قالواتقول ذا المهدي خرج بالجيش لا بر
العربخرج ينوش الناس بالبندر ولا هاب
العنبعاده حمق سكران شارب كأس من خمر الغضب
راكب غزيل الشقر محجل كلما رنح
وثبقربت أسلم عقال لي من أين؟ من أي العرب
فقلت هذا عيق حق الله… هب لي ما
وجبقبلة على خدك خفيفة دين ما فيها
طلب |
لقد أدرك يحيى أن الحب والحرب والشعر تستقي من معين واحد هو قوة السطوة والتسلط، وإحكام السيطرة، ولكنها قل أن تجتمع لأجداد وعندهم.