كانت للشيخ (عمر) نظرات عميقة في الحياة تدل على صادق تجربة ومعاناة، وعلى بعد نظر، وتأمّل في شؤون وشجون الدنيا، وما يعرض للإنسان فيها من النعماء والبأساء، ومن الفرح والنكد، ومن الجد والهزل، ومن الغِنى والفقر، ومن الجمال والقبح، وكان يعبّر عن نظراته هذه بريشة الفنان، لا بمنطق الفيلسوف، بالإيماء، وليس بالتصريح، وبالإشارة – التي قيل أنها تكفي الحليم – وأحياناً نصادف نظراته مبثوثة ما بين السطور، مغلفة بغلالة شفافة لمن يحسنون الرؤية خلف الأبواب الزجاجية المموّهة.
الشمس تخدم جبين الخل
ذاأما القمر هو جبين الخل
ذاكشفت الخلائق هوت أسيان
ذاأما سلوس الذهب في جعد ذاك
وناس ينفح بشبابه
لذاوهو بيعطي في المغنى
لذاكأمحني الله بعشقه حب
ذاوسهرت نومي عطش من حب ذاك
يا ناس عقلي مضيع عند
ذاوالقلب أشوفه معلق عند
ذاك |
بكل هذه الرشاقة والسلاسة الأوزان الموسيقية التي تأسر السمع، والمعاني السهلة المصقولة، يدخل يحيى إلى موضوعه بادئاً بميدانه المفضّل (المرأة)، فالمحبوبة المعشوقة منهن قد تكون بلا حليّ ولا مجوهرات، فيما الأخرى التي قد تكون أقلّ جمالاً تسلسل شعرها بالذهب، وبعد المرأة ينظر في ميدانه الشخصي (الغناء) حيث يَرى أنّ الرسالة قد تكون لغير من أرسلت إليه، وإنما مرّت في العنوان من أجل التمويه، ثم يمدّ (أبو معجب) بصره أوسع فيتأمل فيما هو أبعد دون أن نشعر بأنه قد خرج عن السياق أو أخلّ بشروط وحدة الموضوع، ذلك أن نظائر الحياة قريبة وإن تباعدت:
بندر عدن والمكلا قسم
ذاوالسلطنة حكمها من تحت ذاك
شفت القلم والدواة في يد
ذاوالترجمة والطلق في يد ذاك
ومركب الميل حول نول
ذاأما السواعي تخرج نول
ذاك |
وما بين (ذا) و (ذاك) – اللذين يرمزان إلى اصطراع البشر حول الأرزاق والرئاسات والمتع والملذّات – احتار (أبو معجب) وقد كان حظه من الدنيا قليلاً، ولكنه لم يقل كما قال (المتنبي):
ومن عرف الأيام معرفتي بها
وبالناس روىّ رمحه غير راحم
|
ذلك أنه كان قد ترك العسكرة وطلقها ثلاثاً، وبدلاً من الولاية التي كان يسعى (المتنبي) إليها على الأرض، فإن (يحيى) قد صاغ لنفسه مملكة في الخيال، ثم زهد فيما عدا ذلك، لذلك لم يطلب لنفسه بعد هذه السياحة العجيبة سوى شربة ماء، وهو يعتبرها أغلى من الدنيا وما فيها، ما دامت من يد الحبية:
لي منع منعك على شربه
حلالا شي معك ماء مبر في دعاك
فقال لي والعمد عند
التلالا تطرق أبواب ذي فيها
الهلاك |
“لي منع منعك” معناه رجاء رجاء، أما “العمد عند التلا” فتعني تنبه لخواتيم الأمور أو تالياتها، التي قد يكون فيها الهلاك، وذلك أن المحبوبة تشكك في طلبه الماء، وفهمت أن (يحيى) يرمي لشيءٍ آخر، وأنه يستخدم الرموز التورية.
ولأن (أبو معجب) حزين، فلم يبادرها هذه المرّة بخططه الهجومية المعتادة، دائماً أقرّ بصوت خفيف بأنه حائر، وطلب من الله تعالى “الفكاك” أي جلاء الأمر وإجلاء الهم، لأنه ليس في حالة فرح أي “سلا”:
يا ناس لا حد يقول إن بي سلا
لا حيرة لأرض يا الله
بالفكاك |
ومثلما هو حال الجَزْرِ والمد، نبقى مع (يحيى عمر) نخوض في مياهه الشاطئية والعميقة، نسعد لسعادته ونألم لحزنه، ونحلّق معه حينما يقرر الطيران، ليتجنب عثرات الأرض، وقطّاع الطرق النهّابين للآلئ الجمال، وهم يدركون نفاسة ما في خزائنهم منها.