تُعتبر أشعار (يحيى عمر) بمثابة مستودع للذاكرة الشعبية لـ(الجزيرة العربية) و(الخليج) بصفة عامة، ولـ(اليمن) على وجه الخصوص، وذلك فيما يتّصل بمقاييس الجمال الإنساني بالنسبة لعامة الناس الذين يأكلون من خشاش الأرض، ويسعَون في مناكبها كوحاً، أمّا الخاصة فإن مقاييسهم قد تختلف بقدر ابتعادهم عن ينابيع الحياة الحقيقة، وتشبثهم بالنماذج المثالية. وفي زمن الشيخ (يحيى عمر) في القرن الثامن عشر، لم تكن هذه المعادلة بين العامة والخاصة متبلورة بالقدر الذي نلمسه اليوم، فلم يكن التعليم الحديث قد شقّ طريقه إلى المنطقة، كما لم تكن وسائل الاتصالات متطورة بحيث تتمكن من إثارة الزوابع حول أي عملٍ فني يخالف ذوق المؤسسات والجماعات، وبهذا يمكن اعتبار (أبو معجب) محظوظاً في زمنه ذاك، فلم يشعر بوجود الرقيب خلف ضميره، ولم ير المقص أمام لسانه، وبذلك جاء تفرّده الشعري وغناؤه الفطري منطلقاً حراً غير متكلف ولا متصنع، فتمكن أن ينقل إلينا درراً ثمينه من ذلك الزمن وناسه ومقاييسه وعاداته وتقاليده، فللمؤرخ فيما أبدعه بُغية، ولعالم الاجتماع دالة، وللباحث في الموروث الشعبي سِعة، ولدارس الفن والشعر مجال وأيّ مجال، ولن يعدم طالبو الحكمة الشعبية والنظر العقلي صيداً ثميناً في بساتين (يحيى عمر) المليئة بكل أنواع الفاكهة، وبما لذّ وطاب، ومما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين.
ويعرج يحيى في بعض أشعاره على البلدان والمناطق، يوظفها في أغراضه الشعرية، ولكنه يضيئها من عتمة التاريخ، ويبعثها مجدداً إلى الحياة في ثوب قشيب:
يحيى عمر قال أمسي في قهد
وبيت النوم من عينه
شريدلو نامت الناس طرفي ما رقد
يا زين لسبال منسوع الجعيد
|
و”القهد” هو امتناع النوم بصورة مجهدة، أما “الإسبال” فهي رموش العين الجميلة، و”منسوع الجعيد” هو الشَّعرُ الكثّ المنسوج في ضفائر:
حلقت ما أنساك يا زين الخرد
لو يعرضوا لي عدن ولا زبيد
وإلا بلاد اللحية
للعندوإلا المراسي محلات
العبيدلو خيروني يهر وإلا
كلدوساحل أبين وبندر بن
فريد |
و”الخرد” هي مخفف (الخرّد) بتشديد الرّاء، وهي المرأة الجميلة البضة الناعمة، التي يقول أنه لن يقبل بديلاً لنظرة واحدة منها كل هذه البلدان والموانئ. وفي الصورة إشارة إلى تجارة العبيد في القرن الثامن عشر، فأين هي مراسي العبيد يا ترى في يومنا هذا، وما فعل بها الدهر من بعد يحيى وفاتناته، وهل حصل (أبو معجب) على تلك النظرة المشتهاة..!
نظرة من الزين تكفيني
وسدما عاد أريد أفرقه مني
بعيدبنيت له قصر في قلبي
أكدله قصر عالي وله خلوة بريد
جوب عليّ قال علمك يا
ولدقرّب وخابر وما هو ذي
تريدوبعد حانق وسبر لي
حرجقال المحبة رضا ما هي زنيد
|
ويوحي تعبير “سبر لي حرد” بأن المحبوبة افتعلت المغاضبة والحرد لتختبر حبّه، أو لتلوّع كبده، وقد مرّت مرور الكرام فبذلك الشيخ (أبو معجب) حول البلدان التي يرفضها لو عُرضت عليه مقابل نظرة منها، فهي تدرك أنها من بنات خياله، وأن الكلام ليس عليه جمارك، وذلك لا مانع لديها من أن تشطح هي الأخرى فتضيف:
لي قصر عالي ومقسّم في
البلدما ناش مطروح رزوة ع الجنيد
خمسة وعشرين قدامي
وكدوسبعة أخوة ولي أبا
وسيد |
و”المقسم” هو الأملاك والإرث مما يقسم الإنسان، أما “الرزوة” فهي النبتة في أول بزوغها في الأرض، وهي تكون ضعيفة تخشى حتى هبوب الهواء، والمحبوبة تريد أن تقول أنها قوية ومحمية لتردع أطماعه، لأن المحبة بالرضا وليست بقوّة الزنود والعضلات، أو طلاقة اللسان، وفصاحة الكلمات.
وفي مثل هذه الحالة يلجأ الشيخ (يحيى) إلى مخزون الحكمة الشعبية، وتجارب الأيام والليالي، فيكمن خلف متراس الصبر كما يكمن النمر خلف الأجمة في الغابة منتظراً أن تلوح الفرصة وتغفل الفريسة عن حذرها أو تلين قناتها.
لي قصر عالي ومقسّم في
البلدما ناش مطروح رزوة ع الجنيد
خمسة وعشرين قدامي
وكدوسبعة أخوة ولي أبا
وسيد |
وهكذا أقنع نفسه وأقنعنا وأسقانا معه سلسبيلاً فراتاً من ينابيع الشعر الصافية.