كان (يحيى عمر) ينظر إلى المحبة على أنها نعمة من الله تعالى، شأنه في ذلك شأن كبار المتصوّفة من (الحلاج) حتى (ابن عربي) مروراً بـ(عبدالقادر الجيلاني) و(السيد العيدروس)، وإنما اختلف عنهم بإسقاط الشطح المتجاوز الذي علق (الحلاج) و(السهروردي) القتيل على أعواد المشانق “وقد أرشدته سليقته الشعبية إلى الطريقة الوسطى المُنجية، بالتعامل مع الحب كواقع إنساني محتوم لكل ذي قلبٍ سليم، والابتعاد عن فلسفته، وتوليد معانه الكونية والإلهية، كان يقترب من الله تعالى كمدبّر للكون والمعاش ومقلب للقلوب، ولكنه يقارب الدين في حياة الناس ومذاهبهم ومعاشهم، ويمكننا القول باختصار أنه بمقدار ما كان يقترب من الله تعالى كان يبتعد عن الناس، وبذلك لم يكن في خلاف معهم أو اختلاف مع رؤاهم، فقد كان دينه دين الفطرة بعيداً عن تأويل المتأولين وفلسفة المتفلسفين، ومناظرات المتكلمين وإشراقات الإشراقيين.
هو يتجه إلى الله تعالى مباشرة، يطلب منه فحسب، ولا شك أنه كان عميق الإيمان، سليم الطوية معتقداً بفيض الرحمة، وبشآبيب الغفران التي تـتـنـزّل على جميع العباد في كل البلاد:
يا الله اليوم أنا سألك بِطَهَ والأحزاب
يا كريمان يا الله
سهل الرزق يا رحمن وافتح لنا الباب
واستر العيب يا الله
قال أبو معجب أن الوقت قاسي وغلاب
إنما حسبي الله
المحبة بلاء والعشق كم صابني صاب
حسب ما قدّر الله
من هو الزين يصبر لو رقد فوق مزراب
قال في جنة الله
قلت يا خل من ذي علم ذا التخضاب
قال علمني الله
قلت والنقش ذا يا خل ذي بين الكعاب
قال ذا صنعة الله
قلت له خلني باشم عرفك والأطياب
قال زح لك على الله
جمع مشموم زكيته بكاذي وأزاب
جملة أشياء من الله
اللقاء سعد والجنة ملاقاة لحباب
واللقاء نعمة الله
والصلاة والسلام تغشى النبي خير الأحباب
الذي حبه الله
معذرة للإطالة في الاستشهاد، ولكني تعمدت ذلك وقصدته، لكي يشاركني القارئ الذواقة في استطعام طلاوة الشعر، وتلمّس روح الشاعر الذي يتسلل إلى القلوب بدون استئذان. وأشير إلى أن “المزراب” هو الشوك الذي لا يقبل به أحدٌ فِراشاً لمنامه، و”التخضاب والنقش ذي بين الكعاب” أي النهود هو من مكملات زنية المرأة بالحناء، أما “المشموم والذاكي والأزاب” فهي نباتات عطرية معروفة في اليمن.
وفي الجملة وحسب معرفتي المتواضعة فلم أقرأ لأديب عربي في القرن الثامن عشر مثل هذا الاختراق الذي تجرأ عليه (يحيى عمر) في بنية الشعر الغنائي لغة ومضاميناً وأوزاناً، ومن الأدلة على ذلك في ساحة (الجزيرة) و(الخليج) أنه ما من مُبدع من أحفاده قد استطاع أن يبزّه أو يجاريه، ناهيك عن أن يسبقه حتّى يومنا هذا، ولا يزالون عالة عليه في فنه الذي اختص به، وحين نقرأن للتو واللحظة نشعر كأنه كتب هذا الكلام ليلة البارحة لا قبل ثلاثمائة سنة.
لقد انتبه بعض المستشرقين لأهميّة (يحيى عمر) التاريخية والإبداعية والغنائية، ولكنهم لم يتوافروا على المصادر الكافية لكي يضعوه في كفة الميزان بالنسبة لعصره والعصور التي تلته، كما تنبه العموم لإمكانياته التي لا يدانيه أحدٌ فيها من معاصريه، ولكنهم تلقوه سماعاً ومحبة، وعجزوا عن توثيقه شاهداً على عصره وحدة، فذلك ليس من اختصاصهم، وإنما من اختصاص النخبة التي عجزت عن النهوض بهما هو مطلوب منها لعوامل كثيرة، وتحيّزات خطيرة، وموقف مُسبق من الأدب الشعبي، ورغم ذلك فإن (يحيى) ومن على شاكلته هم مثل اللآلئ المشعّة مهما ظلت في ظلام اليتم ستشرق ذات يوم كأبهى ما تكون اللآلئ الكريمة على أعناق الغيد الحِسان:
يحيى عمر قال يوم
النورمن حين صادفت أنا
الغانيأنا لمحته خفا
مستورفك الزراره
وروانيرواني أنهود
كالبلورمثل السفرجل
ورمانييا ليتني بينهم
مقبورما بين ذا النهد
والثانييكون ذنبي بهم
مغفورجنة الخلد
تلقانيأصبحت هايم كما العصفور
فارقت أهلي
وأطاني |
إن روح (يحيى) لا تزال تهيم كـ”العصفور” الذي يتغنى بعظمة البحيرة، لكنه لا يخلص منها إلاّ بقطرة أو قطرتين، وفضله العظيم أنه أرشد أتراب العصافير إلى ذلك الخضم.