هاتفني من عدن صديقي الأستاذ: (ناصر عبيد القعيطي) وأثنى ثناءً عاطراً – لا أستحقه – على ما كتبته عن أسطورة الغناء في (اليمن) وفي (الجزيرة العربية) و(الخليج) (يحيى عمر)، مشيراً إلى أن هذا العَلَمْ لم يأخذ حقه من العناية والدراسة والقراءة، ومصحّحاً ما يظنّه خطأً في البيت المنسوب لـ(أبي معجب) في أحد قصائده المغناة والقائل:
يحيى عمر قال ما شأن القبيح
لمه لمه واضنيني ذا
الجفا |
والأصح كما يراه:
يحيى عمر قال ما شأن المليح
وللحق فإنني قد وقفت طويلاً أمام هذا البيت وأنكرت أن يكون (يحيى) – الذواق المتفنن بالكلمات ذوات السطوح والإشراق والمعاني الجميلة – قد قارب هذا المعنى ثم وجدت “المليح” في البيت الثالث:
وقلت ما كان ظني
يالمليحإن صبحت الجيد ترجع للقفا
|
فقلت لعل لـ(يحيى) تخريجاً لا أراه تجاه تلك المعشوقة القاسية التي وصف فعلها بقوله:
خليتني أمسي على بابك طريح
في البرد يا خل ما عندي دفا
|
على كل حال أنا مع (ناصر عبيد) لأنني أعرف ولعه الشديد بالشاعر، وحسّه الرهيف في التقاط المعاني والصور والأوزان، وهذا الموضوع يقودني إلى الحديث عن أخطاء النسخ والنساخ، وهي مشهورة ومتواترة، وقد أتعَبَتِ المحققين الباحثين، وكذلك إسقاطات الذاكرة على مرّ الأيام وكرّ الليالي، وهو ما يؤشر لأخذ الروايات الشفوية بكثير من الحذر والحيطة وعرضها على ذوي الخبرة من الشعراء والمجيدين الذين يستطيعون التمييز والإستشعار، وهنا يصحّ المثل العربي القائل: “وَيْلٌ للشِّعْرِ من رُواته”، وعلى من يجد في نفسه القدرة على الاستبصار أن يتجنب الوقوع في خلط “حاطب الليل” الذي لا يستطيع التمييز في الظلام بين ما يجمعه خبط عشواء، والذي لا يبين له إلا ضحى الغد، فلا هو بمستفيد من الغث، ولا هو بقادر على الرجوع ليحتطب من جديد. وهناك أيضاً فتنة الانتحال بقصد وبغير قصد، بحيث تختلط قصائد شعراء عديدين، إمّا للتشابه، وإما لخمول أسماء البعض، وضياع تراثهم، وإما للإنحياز الذي تظهره الجماعة لمن تحب وتهوى، بحيث تنسب إليه كل جميل وكل معشوق.
ونعود إلى تجليات العم (يحيى) الذي يستعرض مواهبه في تقييم أصناف المعشوقات وفق الألوان المتعارف عليها شعبياً، ويبدو أنه قد سبق الأمريكيين الذين يعيشون درجات المخاطر بالألوان في حربهم المزعومة في الإرهاب، ولا أدري فيما إذا كانت مخاطر (يحيى) هي الأكثر تفجيراً أم مخاطر الأمريكيين، ألم يصف القرآن الكريم النساء بالقول: {إن كيدهنّ عظيم}، ومع ذلك فإن (أبى معجب) لم يكون هيّاباً ولا جزوعاً، وقد انحاز إلى البيض انحيازاً لا مراء فيه:
البيض قدهن دوا من به
وجعمعهن تخاتر ومعهن
لدوياتالبيض يا قلب لا شي بك وسع
فتم وبا سيك من خلف
الرئات |
أي أن المرأة البيضاء هي الطبيب وهي الدواء في آن، لذلك فإن (أبى معجب) يطلب من قلبه المغرم أن يفسح مجالاً إذا بقي فيه متسع لكي يضع البيض في حرز حريز خلف رئتيه:
والخضر خضرة لمن فيا رتع
مثل الصعاد الدقاق
الملويات |
و(الصعاد) هي العصا يحملها إنسان ذلك الزمان لأغراض شتى، ولكن تخصّص الوصف بـ”الدقائق الملويات” يشير إلى (الخيزرانة) وهي من الأوصاف المحببة في حق النساء، لأنّها تجمع إلى الرشاقة الليون واللمعان واللسع الحارق:
والصفر صفراء كما زرع
النقعصفار حسينة نويهي
ناهياتالصفر هي مثل ذي فيه
الوجعمن خارجه زين والداخل شمات
|
يمثل هذا الوصف على الصفر الرحيل من حلبات جمال (أبو معجب)، فعلى الرغم من أن تأدبه قد فرض عليه أن يصفهن بالحسن وأنهن “نويهي ناهيات” أي لا بأس بهن لا بأس، وهي علامة بمثابة درجة النجاح الأدنى 49% أو أقل، وهي لا تؤهلهن لدى كلية محترمة يأكلن من وراء شهادتها لقمة العيش، وعزاء الصفر الوحيد هو أنه هناك من هو مطرود بالمرة، ولم يحصل على الحد الأدنى:
والحمر مثل الحياي
الملتقعأو هن مثل الحناش
المطوياتالحمر ماشي معيا به
شنعمن ساعف الحمر عظامه وانيات
|
إذاً فالحمر أكثر بؤساً من الصفر، فهو يشبههن بالحيات اللداغة والثعابين المنوطة على نفسها، ويتهمهن بأنهن يجلبن لمن ساعفهن “ما شاهن” هشاشة العظام، ولم يُبقي في جعبة (الدونجوان) (يحيى) غير السود.
والسود ما شي لمراهن سمع
خادم لساج العيون
الراوياتفيه البراعة وعافية الشنع
ومشيته كالطيور
العابرات |
لقد أنصف وهو وصف ولم يحكم، وترك الحكم للسامع والقارئ، ثم انسحب من الموضع كله: “والقلب يختار كل ع الولع…” هذه زبدة الحكمة وفصل الخطاب.