المرحلة الهندية في حياة (يحيى عمر) كان لها الأثر الأكبر في تكون شخصيته الفنية، وإثراء خياله، وصقل موهبته، كما كان لها الفضل في شهرته التي حملتها الرياح إلى مدن (الخليج العربي)، وموطنه الأصلي في (اليمن).
و(الهند) كانت سلطنات وممالك في ذلك الوقت من القرن الثامن عشر، وقارة تعبق بالبخور وأطايب البهارات، فتح ذلك الشاب القادم من (اليمن) عينيه على القصور العامرة، ومواكب الحكّام الباذخة، ومظاهر الثراء والنعيم، حيث عمل جندياً، ومن عادة الجنود أن يطّلعوا على ما وراء الأسوار، وأن يتبادلوا الأحاديث حول ما رأوا وسمعوا وما تخيّلوا، وهي إحدى مُتع الحياة في حياتهم الجديدة في المهجر. ومن تأثيرات تلك المرحلة في أشعار (أبو معجب) ما طرأ على فن الوصف في قصائده من تحولات وتبدلات مما يذكرنا بالشاعر (علي بن الجهم) الذي وصف الخليفة بتشبيهه بالكلب في الوفاء، وكالتيس في قراع الخطوب، الأمر الذي روّع بطانة الخليفة الذين أرادوا الفتك به نظراً لهذه الجلافة البدوية التي لم يألفها أهل الحضر، ولكن الخليفة – ذي الأصول البدوية العربية – أدرك بثاقب فطنته أن أخيلة الشاعر هي نتاج بيئته، فهدّأ من روع الجميع، وقال لهم: “دعوه وأكرموه وسترون كيف يتلطّف ويترقق بعد أن يتبغدد”، فلما عاش الشاعر في (بغداد) ردحاً من الزمن إذا به يصبح عيون المهابين الرصافة والجسر.
عيون المها بين الرصافة
والجسرجلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
|
لقد زالت خشونة البادية، ولكن صلابتها بقيت، وسادت رقة المدينة ولكن ميوعتها استبعدت، وهذا ما صار مع (يحيى)، فقد انتقى من بيئته القديمة أصلَ ما فيها “الأنف خنطر لقطاع الرؤوس…وحاجبه مثلما أضواء الشموس… ومبسمه مثلما برق الغلوس…” أي برق الليل، لأنه يكون أشدّ وهجاً وأبهى منظراً، “والصدر ميدان للضمر تروس” أي للخيل المضمرة وهي عادة خيول السباقات، “وأعيان حمراء كما جمر اللهوس”، وهذا تشبيه متواتر ومتعدد في أشعار (يحيى)، وقد حار فيه شارحوه، وذهبوا فيه مذاهب شتى، ولكن الحقيقة هي أبسط من ذلك بكثير، فهناك في الهند طائفة من ذوي البشرة البيضاء فارعي الطول، ونساء هذه الطائفة أجمل نساء الهند، من أولئك اللواتي نشاهد العديد منهن في الأفلام، ولهن عيون مشرئبة بحمرة خفيفة ساحرة هي أقرب أن تكون وردية، ويُحِطْنَها بمساحيق حمراء حول العينين وعلى الوجنتين، وكثيراً ما ترى الواحدة منهن لابسة (الساري) الأحمر، وهي “تمشي الهوينى كما يمشي الوجي الوحل”، على حد تعبير الشاعر الجاهلي، ولما كان (يحيى) كما أشرنا بالأمس يضع النساء البيض في رأس قائمة الجمال فإنه بذلك قد عثر على نموذجه المفضّل، فأودعه في خياله، وسجّله في كمبيوتره، يستحضره متى شاء.
أمّا المرحلة الهندية فقد أدخلت إلى قاموس (يحيى) مفردات كثيرة، ولعل قصيدته: “بعد الآن… يحيى عمر شل الدان” تقدم لنا مثلاً على التبدلات والتحولات في رؤيته الفنية ومعالجاته، وهذه القصيدة مبنية على أوزان راقصة، وفيها كلمات من اللغة الأوردية، انسجمت مع البناء العربي للشعر، واندمجت فيه. وفي القصيدة أيضاً شهادة على عصرها وعلى حياة الجندي العربي في (الهند) وعلاقاتهم مع السكان:
بعد الآن… يحيى عمر شل الدان
ما يهتان… لله من ذا الهندي
سيد أهله… في الناس ما حد مثله
طاب أصله… كم لي تمنى وصله
من جهله… ما يوم جا لا عندي
حاضر باش… هندي برابر شاباش
مثل الشاش… أبيض منقرش نقراش
عقلي طاش… مسكين أنا ما جهدي
ويواصل على هذا المنوال حتى يصل إلى بيت القصيدة في طرق الأبواب على الأحباب، والتواطؤ بين العاشقين الذي أرجح أنه من ثمرات الخيال الحيوي المغرم بالحوار الشعري المتكافئ:
قلت اسمع… صاحب “شلوه” قم اطلع
لا تمنع… من العرب لا تفزع
لا تفجع… هذي بلاد الهندي
جوّب قال… صبر “كروه” يا رجال
كي احتال… ذلحين زوجي وصال
والجهال… والجارية ذي عندي
جي بكرة… شافعل لزوجي مكره
في الشكره… نسمر ونرقد مره
في الحجرة… وأعوضك يا جندي
القصيدة فريدة في موضوعها وفي تقسيمها وفي قوافيها، وهي تمثل مرحلة نضج وسيطرة على مقاليد الشعر، دون تعسف أو افتعال أو معاضلة في الكلمات والأفكار.