بهذه الزاوية أختم حلقات (يحيى عمر قال)، والتي حاولت من خلالها تسليط بعض الضوء على حياة وأشعار (أبو معجب اليافعي) الذي لم يأخذ حقه من التقريض النقدي والتأصل التاريخي رغم شهرته الواسعة على مستوى بلدان جزيرة العرب بدون استثناء، ولا يزال حتى يومنا هذا مصدر إلهام وموضع إعجاب ومحل استفهام.
لقد أنجز (يحيى) في حياته وبعد مماته مهمّتين كبيرتين…
الأولى: تحريره للغناء من العامية المبتذلة، أو المُغرقة في المحلّية، وكذلك من اللغة القاموسية المتصلّبة، وإشاعته للغة سهلة يفهمها الأمّيُّ ويستسيغها الأديب.
الثانية: نشره للغناء اليمني وألحانه، وخاصة ما يُعرف بـ(اللحن اليافعي)، وقد أصبح هذا الغناء موروثاً مشتركاً لسكّان الجزيرة العربية، يتباهون به ويرددونه ويحملونه معهم في حلّهم وترحالهم.
وسيرة (أبو معجب) لا تزال فيها ثغرات تحتاج إلى البحث العلمي الميداني، فإذا كان البحث الذي قام به منتدى (يحيى عمر الثقافي) قد قطع بصورة نهائية في مسألة مسقط رأس الشاعر في قرية (كبانه) (مشألة) في (يافع)، فإن إقامته في (عدن) و(حضرموت) و(الهند) وفي منطقة (الخليج) وزواجه وعمله لا تزال موضع دروس واستنتاج أوّلي، وإن كانت أسفاره بصفة خاصة تقدّم لنا مادة ثمينة، ومؤثرات كثيرة تحتاج إلى ما يدعمها من البحث الإضافي. والأشعار نفسها بحاجة إلى تدقيق أكبر، نظراً لتعدد الروايات، واختلاف المصادر، وتفاوت المستويات الفنية في بعض القصائد، مما يرجّح احتمال حصول عبث فيها.
وكيفما كانت نتائج البحث والتقصي فإن ما بين أيدينا ليس بالقليل، ونحن ننتظر صدور الجزء الثاني من أشعاره عن (منتدى يحيى عمر الثقافي) في (يافع)، فربما كان فيه من المفاجآت الكثيرة، وعلى كل حال فالمتوفّر يؤكد أن (أبو معجب) صاحب مدرسة واضحة المعالم، مميزة الشخصية، فريدة الأخيلة، وهو يمزج بصورة لطيفة بين الفروسية والعشق، ويرسم صورة للعاشق ليس المتهالك الذليل الخانع، وإنما المِقدام الجسور الواسع الخيال والحيلة.
يحيى عمر قال والله ما
دريتإن الهوى هكذا يفعل
معيوالله لو كنت أدري ما
اغتزيتإني مع العشق شاعر شاجعي
ولا كنت في ساحة العشق دويت
ولا تسمّيت يحيى اليافعي
كم قمت في الليل أدوّر ما
لقيتبا سجل الخط واطرح
طابعيوكم مهاري كثيرة قد
رأيتوأصبحت مثل الرؤى ما شي معي
وما نفعني وياكم قلت ليت
والظبي عامد على
فازعي |
في مدرسة (يحيى) يختلط الحلم بالواقع بصورة طبيعية، كأنه يعيش الأمرين في آن واحد، وهو يدرك أنّ أحمال الهوى ثقيلة، وخسارته فادحة، لذلك فإنه يلجأ إلى الحلم مرة، وإلى الخيال أخرى، ليسدّ الثغرات التي يخلقها الواقع.
وفي الليالي الظليمة كم سريت
أنا ومن كان مثلي
مولعيلو كان لي مال صنعاء ما رضيت
يصبح بملكي وأرضي
الموزعيأجني معك بالعنب يا ذي
جنيتولا نهاب السيوف
القطّعيهذا الذي بالهوى فيه
ابتليتمع نسور الهوى
والسّفعيما همني ذي يقولوا كم
جنيتبالهند والشام وأرض
اليافعيوكم يقولوا لي اخضع ما
رضيتإلى متى كان قلبي
قانعي |
هذا هو (يحيى عمر)، مزيجٌ من الرجولة والفروسية وخفّة الظل وخصوبة الخيال، ورقة المشاعر، في نسيج من الفن المحبب إلى نفوس الناس، ينساب إلى أعماقهم، مصحوباً بألحانه المشهورة التي حفظها الزمن، ولم تطلها يد الغناء.