يقول الدكتور (عبدالعزيز المقالح): “(البردّوني) تعبير عن رحلة نفسية وروحية تبحث في قاع الروح اليمنية الغافية عن بقايا ريش الحضارة المطمورة، وذلك في مزاوجة رحلة البحث والخلاص”.
إن ديوان البردوني الأول (من أرض بلقيس) والذي صدر عام 1961، يسجل بداية الرحلة المجهدة الممتعة في آن، فهو بمثابة إعلان ولادة، وتحدياً وجودياً وحضارياً وإنسانياً لواقع معاش أعمى البصر كليل البصيرة، وكأن التأسيس يقتضى العودة إلى أبعد أعماق الذاكرة الشعبية المتصلة بالسبئيين وبالملكة (بلقيس) التي تمثل الفجر الذهبي للحضارة في اليمن السعيد. وكان الشاعر واعياً كل الوعي لعنوان مجموعته الأولى ودلالاته وإسقاطاته الروحية والإبداعية. (من أرض بلقيس) كان بمثابة (مانيفستو) شعري وقيمي ورؤيوي، ونظرة اعتزاز من شرفة حاضر تعيس إلى ماضٍ لم يفقد وهجه أبداً وما زالت آثاره شاخصة. وفي هذا الاتجاه كتب الدكتور (ضياء خضير) تحت عنوان (الأعمى الذي رأى) يقول:
“نعم هو أعمى، ومن اليمن التي مر عليها حينٌ من الدهر لم يكن فيه المبصرون أنفسهم قادرين على الرؤية في الواقع التاريخي الذي كان فيه اليمن السعيد شقياً بكل ما فيه ومن فيه. ولكن (البردّوني) كان قادراً كما قلنا على الرؤية رغم فقدانه البصر، لأنه شاعر يعتمد البصيرة والعين الداخلية التي ينفتح فيها الجسد على آفاق وفضاءات غير مرئيسة حتى لذوي العيون الواسعة والبصر الحديد.”
ديوان (البردّوني) الثاني جاء بعنوان (في طريق الفجر) وصدر عام 1965 في فترة ملتبسة شهدت نهوضاً ثورياً عارماً في شطري اليمن، حيث حجب غبار المعارك الرؤية المُثلى للمستقبل، وإن كان الأمل قد انغرس عميقاً في النفوس وكان (البردّوني) أحد الحُداة الجهيرين لقافلة الزمن الجديد، يتحسس بيديه المبصرتين وجوه الأحداث وما تركه الزمن عليها من ندوبٍ غائرة وأخرى ما تزال تنزّ دماً.
وفي 1969 أصدر (البردّوني) مجموعة الثالثة المعنونة (مدينة الغد) لكأنما عثر على مدينته المبتغاة في الحلم ولكنه لم يعثر عليها في الزمن، أو أنه لن يعثر عليها إلا في الغد، ذلك الذي يأتي ولا يأتي، فيؤرق منامات الشعراء الحقيقيين، ويقضّ مضاجعهم، فتورق الكلمات على شفاههم لتحيلهم إلى خيالات ممضة، وإلى أغنيات ملوّعة مثلما عبر (البردّوني) وهو يخاطب (أبو تمام) (حبيب بن أوس)
|
حبيبٌ تسأل عن حالي وكيف أنا؟
شبّبابة في شفاه الريح تنتحبُ
|
نعم… لقد رحل المغني، ولكن الغناء يملأ الآفاق…
آفاق فضل النقيب 