أخذ (البردّوني) الذي غـيّبه الموت يرافقني في (عمّان) كأنه ما يزال على قيد الحياة، يسخر من الحياة والأحياء، تلك السخرية اللاذعة التي صبّرته على مرارات العيش، وقادته إلى ينابيع الفطرة السوّية، حيث يتساوى من على العرش ومن يستف التراب، وحيث تتألف الروح المنيعة بالرغم من السواد المحيط بها أو المعشش فوق ملكوتها. وهنالك في البعيد البعيد، يزن الشاعر الأشياء بموازينها الجوهريّة، لا بمظاهرها الشكلية:
هذي البيوت الجاثمات
إزائيليلٌ من الحرمان
والإدجاءمن للبيوت الهادات
كأنهافوق الحياة مقابر
الأحياءتغفو على حلم الرغيف ولم تجد
إلا خيالاً منه في
الإغفاء |
ألا ترى معي أيها القارئ العزيز إن (البردوني) الرائي بعمق بصيرته كان الأقرب إلى حزن الناس والأكثر إحساساً بالمعاناه وسيظل شعره شاهداً على عصره مهما تعاقبت العصور وتغيرت الظروف.
ولقد التفت إلى هذه الصلة الحميمة بين (البردّوني) وعامة الناس الشاعر السوري (ممدوح عدوان) في افتتاحية نشرت في جريدة (الرأي) الأردنية قال فيها:
“التقيت يمنيين إماميين وجمهوريين وقوميين وبعثيين وشيوعيين ومتديينين وعمالاً ومثقفين ولم أر بينهم من يمكن أن يأتي على ذكر (البردّوني) إلا بالخير والفخر، وحين كنت ألتقي بالـ(برودني) في (دمشق) وهو قادم لطباعة دواوينه أو للزيارة أو للمشاركة في مهرجان، أو ألتقي به أي مهرجان في أية عاصمة عربية، كانت الحالة التي أجده فيها تبعث على الإعتزاز بالشاعر وعلاقته بأبناء بلده، اليمنيون يتناوبون المجيء إلى الفندق أو إلى بيته، وبعضهم يكتفي بالتواجد دون أن يبادر (البردوني) بالحديث يكتفي بأن تتاح له فرصة لأداء خدمة للشاعر رمز البلد، وهذه حالة لم يستطع أن يرتقي إليها شاعر بعد، ويحلم بها كل شاعر، ويحسده أو يغبطه عليها كل شاعر في الوقت ذاته”
لذلك أقول إن (البردّوني) قد رحل عنا بجسده الفاني فقط، أما روحه الوثابة فستظل إحدى أكبر محفزات الإبداع والثورة في عالمنا العربي، أو كما قال الشاعر الأردني (نايف أبو عبيد)
كأنك قد مملت أبا
القوافيمن التجوالي في دنيا
المنافيِفآثرت الرحيل إلى
مقرتساوى فيه جبار
وعافِأخا صنعاء، شاعرها المجلّي
تظل النهر لا زبد
الضفافِ |