في يوم وفاة شاعر اليمن الكبير (عبدالله البردّوني)، كنت في الصباح وقبل أن أسمع الخبر في مكتب جريدة (الاتحاد) الغرّاء في العاصمة الأردنية، وكان قد سبقني إلى هناك الشاعرة العراقية المعروفة (آمال الزّهاوي)، والزميل الكاتب (عبد عبون الروضان)، ولم ألتق الاثنين منذ حوالي عشرين عاماً، فأخذنا بأطراف الأحاديث، وفجأة خطر ببالي الأستاذ (البردّوني)، وتذكرت بيت شعر قاله في (آمال) عقب إنصاته لحديثها العذب في ذلك الزمن القشيب من أزمنة بغداد السبعينات:
أأظمأ في العراق
برافديهوفي بغداد (آمال الزهاوي)
|
إبتسمت (آمال) في خيلاء وهي تنظر إلى البعيد وقالت: “أكثر من شخص أنشدني هذا البيت الذي لم يقله (البردّوني) مباشرة في حضوري، فقلت لها إن الأستاذ (البردّوني) واحدٌ من الشعراء غير المعادين للحياة كما شأن (بؤساء) الشعر، وهو على مذهب (أبي نواس) في إسعاد الناس وإبقاء ذكرى طيبة في نفوسهم، فقد رُوي أن (أبا نواس) كتب لمدبّرة بيت أميّة وقد سمعت بشهرته وما تفعله أشعاره في الناس فعل السّحر، فطلبت منه أن يخصها بشيء من هذه البضاعة المرغوبة في أسواق بغداد العباسية، فكتب لها وكان اسمها (رباب):
ربابةُ ربة
البيتتصب الخلّ في الزيتِ
لها سبع
دجاجاتٍوديكٌ حسن
الصوتِ |
وحين عاتبه أحد تلاميذه على هبوطه إلى هذا المستوى من الشعر قاله له بما بمعناه: “إن هذه الأبيات لدى (رباب) أكثر نفاسة من المعلقات السبع.
(البردّوني) كان يرى بأذنيه، ويستقبل بقلبه، ويحب لمس الأشياء مباشرة بمختلف حواسه، وحين وقف في أمسية هنا في الأردن وأحسّن بوجود جمهور نسائي غالب من الهمسات والضحكات والعطور التي تملأ الجو، ارتجل بيتاً من الشعر على وزن قصيدة لشهيرة لـ (مصطفى وهبي التل) (عرار) قال فيه:
يا أردنيّات أحشائي ممزّقة
فمن يلملمني يا
أردنيات |
وقد ضجّت القاعة بالتصفيق، وكان مثل هذا التجاوب يبهجه أيّما إبهاج، وهو الشاعر الحسّاس المتقد الذكاء الذي أخذ الدنيا غلابا. وقد روي لي أنه في مهرجان (أبي تمام) بالموصل في أوائل السبعينات، وبينما كان في الطريق إلى المنصة بثيابه الرثة يقتاده مرافقه، سمع همهمات استهجان في القاعة، فقرر إغاظة الموجودين الذين ظنوه قادماً من القرن الهجري الأول، فتمخط بطرف كمه على فم الميكروفون، فضجت القاعة بالضحك الساخر، ثم ما لبث أن رماهم بقنبلته القصيدة (أبو تمّام وعروبة اليوم) والتي ارتفعت به إلى سماء المجد والشهرة، فأنصت من في القاعة كأن على رؤوسهم الطير. كان (البردّوني) أستاذاً في دفن الحزن داخل أصص الأزهار.