كانت (صنعاء) وكان (البردّوني)، لا تعرف أيهما أقدم عمراً وأيهما أبقى على الدهر، وإن كان كلاهما من طينة الخلود. (صنعاء) مدينة (سام بن نوح) في عُرف النّسابة الذين يرونها أقدم مدن الأرض، شهدت من الأحزان أكثر ممّا شهدت من الأفراح، إن حجارتها تنبض بالشعر، ومشاعرها تفيض بالدموع، ودروسها تحوي كلّ العبر. والشاعر (عبدالله البردّوني) كان يرى فيها صورته وقَدَره، أو يرى في نفسه صورتها وقدرها، لذلك خاطب (حبيب بن أوس) (أبو تمّام) بقوله:
(حبيب) وافيت من صنعاء
يحملنينسرٌ وخلف ضلوعي يلهث العربُ
ماذا أحدّث عن صنعاء يا
أبتيمليحة عاشقاها السلّ
والجربُماتت بصندوق (وضاح) بلا
ثمنولم يمت في حشاها العشق والطربُ
|
لم يكن (البردّوني) ندّاباً، وإن بدا كذلك لمن يستقرؤون السطوح، ولم يكن عدمياً وإن أوهم بذلك عبر السّخرية المُرّة التي طبعت شعره كما طبعت حياته، لقد كان أحد أكبر المبشّرين بقوانين التحوّل والتعاقب والتبدّل وانتظار الفجر القادم والربيع البازغ، وكان أستاذاً في فنّ صياغة الأسئلة إجابة لأسئلة تسبح في ديمومة المعاناة الإنسانية، حيث المرافئ مغطّاة بالضّباب، والبحارة يخشون تقلبات البحار مهما حازوا من علم، ومهما أوتوا من نفاذ بصيرة:
يقولون تُضني (لماذا) بـ (كيف)
لأن سؤالي جواب
السؤال |
كان (البردّوني) هنا في (عمّان) عاصمة الأردن الشقق قبل أشهر معدودات طلباً للشفاء كما يفعل أكثر أهله، وما أظنه في رحلته العلاجية الأخيرة قد أتيحت له فرصة لقاء محبّيه الكثر الذين عبّروا عن لوعتهم برحيله في الصحف السيّارة وأحاديث الصالونات وأكثرهم أشاروا إلى تلك الطفولة العبقرية الصادقة في شعره وفي حياته، ولقد كان كذلك حقاً، وإن كانت طفولته مسلحّة على الدوام بموقف فروسي مقاتل سيتبيّن في قابل الأيام كم دفع ثمناً له من طمأنينته، وكم تجرّح حسّه المرهف بما تكشف له من خبايا النفوس وفحيح المصالح، كما أن نزاهته الشخصية – التي سترفع نزاهته الشعرية مكاناً عليّا – ستضيف إلى بريق إبداعه ما يضيفه قوس قزح إلى بريق السماء الزرقاء، وكذلك إنه أحد كبار الحالمين في الشعر بعالم من النقاء.
إني أبدع منّي عالماً
لا تلاقي فيه محبوّا وحابي
ليس فيه أي محكوم
ولاأي حكم عسكري أو
نيابي |