أحزان في عمّان 20

وللحزن اليوم مذاقٌ آخر… حزن التسليم الكامل بالقضاء والقدر، حزن المحبة في لوعتها، واللوعة في محبتها، حزن الشمس الغاربة وأنت على يقين من أنها ستشرق صباح الغد، ولقد كان أستاذنا وحبيبنا وملهمنا ومعلّمنا الصبر على الشدائد، والإنشاد والغناء في وجه الأحزان، شاعر العرب الكبير (عبدالله البردوني) تلك الشمس التي ستشرق كل صباح، وتلك الإرادة التي لم تستلم أبداً للحزن، ولا لحادثات الليالي. كان (البردوني) (البصير) – على حد تعبير أهل اليمن الذين يسمّون الأعمى بهذا التعبير اللطيف تحبباً- أكثر الناس إبصاراً وأقدرهم على السير فوق الأشواك، وأشدّهم سيطرة على مشاعر البكاء والشكوى، لذلك فقد حاز على إعجاب الأقوياء الذين يصطنعون وسائل القوة، لأنهم رأوا فيه قوة مكينة دون وسائل معروفة، وحاز على إعجاب الضعفاء الذين يتوسلون الضعف طمعاً في القوة، لأنهم رأوا فيه تجسيداً للضعف القوي، الضعف الذي يتحدى العنفوان بالبراءة، والقدرة على التضحية، والقناعة بما هو متاحٌ بل وأقل من المُتاح. ومن هنا نَبَعت قوة (البردوني) الروحية التي انعكست في قصائده على الأجيال القادمة كما تشرق الشمس على سائر الناس صباح كلّ يوم. ولأنه “سيأتيك بالأخبار من لم تزوّد” كما يقول (طرفة بن العبد)، فإن الأيام القادمة سترينا من مقامات (عبدالله البردوني) وتجلياته ما يجعل منه أحد أكبر قامات الشعر والشعور العربي في قرننا هذا شموخاً وإيحاءاً وإلهاماً.

كان الأستاذ يعرف مقامه، لأنه يرمي إلى هدف، كأنه الطائرة تجري إلى هدف. وما كان يسعده في توحّده الأزلي، ووحشته المؤنسة أكثر من إدراكه العميق لنوازع النفس الإنسانية، التي تخشى الولوغ في الأعماق الشائكة، وتتأبى الصعود إلى القمم العالية:

تحامى   قصائدك  iiالناقدون
أليس (الدكاتير) يخشون iiمَنْ
بذا  صنتَ  فنّك  منهم، iiكما
وأيُّ   يدٍ   تلمس  iiالإشتعالْ
يقول  الذي  ينبغي أن يُقالْ؟
يصون الجميلة عنفُ الجَمالْ

رحم الله تعالى الأستاذ (البردوني)، جوّاب العصور، وضمير اليمن، والشاعر الشاعر، الذي لم يعرف مملكة غير مملكة الشعر، فجاءت جنانه وارفة بالعناقيد التي سوف يقطرها الزمن ويعتقها ويسقيها لأجيال وأجيال تحلم بها وهي لا تزال في علم الغيب.

اترك تعليقًا

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s