عمّان قصيدة شعر بسيطة ومركبة، جبال شموس تم تدجينها فتأنسنت تماماً مثل القصيدة الوعرة حين تستكين على الورق. وديان كانت ودياناً مثل وادي السري الذي رماه (عرار) قصيدة أصبح بيت القصيدة فيها علماً على الوادي:
ليت الوقوف بوادي السير إجباري=وليت جارك يا وادي الشتا جاري
في هذه المدينة (الأبهة) بين كل بيت شعر وبيت بيتان، وليس كما يقال عن بعض مدن الصيف من أن بين كل حانة وحانة حانتين.
أخذت أتنسم أجواء المدينة التي تلقحك في الظهيرة بشيء من الحر اللذيذ ثم لا تلبث أن تحنو عليك في المغربيات بدفق من الأنسام المعذبة. وهيء لي فيما يتهيأ للنائم أنني أتنسّم روائح القوافل القادمة من صحاري الجزيرة العربية وبين بضائعها الشعر تحمله من سوق عكاظ، أو تلك القادمة من جنوب العراق من (المربد) وهي تصلصل بالأوزان التي صكها (الخليل بن أحمد الفراهيدي) في قالبها الأبدي.
ومن الشمال والغرب خيّل إلي فيما يُخيّل إلى النائم أن بساتين الغوطة ترمي بظلالها على منحدرات عمّان، وأن (المتنبي) يحمحم بحصانه قادماً من حلب متلفحاً بالليل والبيداء، وأن بيادر البرتقال ترسل بعطر القداح من البيادر الفلسطينية حاملة تحت نواراتها التين والزيتون وشيئاً من طور سينين.
عمّان المتوثبة في النهار ساجية في الأمسيات، تفيض شوقاً وتتكلم بالعربي المبين، ولولا أنني مشغول جداً بما لا أستطيع البوح به في صحيفة سيارة لكنت قضيت جل وقتي أفتش عن الشعر والشعراء، ولربما جاد الزمن فمنحني مثل هذه الفرصة.
لكن زيارة لزميلتنا (سميحة خريس) مسؤولة الدائرة الثقافية في صحيفة (الرأي) الغراء قد منحتني بعض فرصة فسمعت منها ما عجز عنه العيان ووقفت عيناي على مكتبها العامر بالقصائد على بعض ثمرات البيان مما يهمني أن أنقل إليكم بعضه.
شاعر شاب خجول اسمه (زياد العناني) كان يرمقني بطرف عينه على استحياء وأنا أقرأ بعض نتاجه، بينما زميلتنا (سميحة خريس) – التي أصبحت خبيرة بفن التحليق بالمعنويات – تحاول الإحاطة بتجربته في ما قل ودل من الكلام، وقبل أن أقول لها وله أنني أمام شاعر بليغ الحساسية، مدهش الترايكب، صادق اللهجة: ذلك الصدق الفني الذي افتقدناه لدى الكثير من المواهب التي تغيرها الصنعة والتقليد، فتقتل زهو المهر الحقيقي مكتفية بالحديث عنه. كان الشاعر الخجول قد اختفى دون وداع… إليكم مقطعاً من زياد:
ثمة مدن يهدمها الزلزال… أنا المدينة التي ذاقت خراب الأصدقاء.
وأنا أقول لزياد… كنا تلك المدينة التي خربها الأصدقاء الأيها الصديق الشاعر.