
أخيراً أدرك ميلوسيفيتش أن حساباته مبنية على أوهام:
• الوهم الأوّل: أن بإمكانه – كأي بلطجي – أن يروّع ضحاياه بالقتل والطرد والتصفية، وأن ينجو بفعلته في الوقت ذاته.
• الوهم الثاني: أنه باختراع “تلفيقة” دعائية من نمط “أراضي صربيا المقدسة”، و”محاكمة التاريخ العثماني”، والحديث باسم “صليبية جديدة”، سيكسب إلى صفه القوى المسيحية العظمى، وهذا شرفٌ لم يستطع هذا القاتل المحترف الحصول عليه، وتهمة لا يستطيع إنكارها حين يمثل أمام العدالة الإلهية بالدرجة الأولى.
• الوهم الثالث: إن تحميل شعبه عناء القصف – ولا أقول قوة تحمل
ه هو – ستتعب المُغيرين، وقد تثير لهم متاعب غير متوقعة، فيكفون عنه، أو يضطرون للوصول معه إلى صفقة ترضيه، ونسي في غمرة غروره الضيّق أنه استفز واستدرج القوى العظمى الفاعلة في العالم، وأنها لن تسمح لنفسها بإحناء رأسها أمام ديكتاتور صغير اضطرتها ظروف الإستعداد لحربه إلى أن تكشفه أمام شعوبها كرمز للشر لا بد من اجتثاثه من الجذور قبل بزوغ الألفية الميلادية الثالثة.
• الوهم الرابع: أن الرابطة السلافية التي تضم شعوباً عديدة بمن فيهم روسيا، ستهبّ لنجدته في الوقت المناسب، ولم يعرف أنه كان يأكل العصي بينما روسيا تعدّها، وأنه حين أتلع لسانه من شدة اللهاث اقتاده الدب الروسي منها ليسلمه إلى مسلخ الأطلسي، وربما يقبض غداً ثمن شحمه ولحمه وحتى جلده إذا ما تقرر دباغته لتعليقه في متحف الحرب.
• الوهم الخامس: أنه سينجو وعائلته بجلده، وسيجد له ملاذاً وركناً آمناً في أي مكان من العالم، إذا وقعت الواقعة، وقد استعد لذلك بما نهبه من أقوات الناس وعوائد الدولة، ولكنه علم – حين العلم لا يجدي الفتى – أن أعماله قد قادته إلى قوائم مجرمي الحرب، وأنه سيكون مطارداً حيثما حل أو ارتحل ومع صفوة جنرالاته.
• الوهم الأخير: أنه سيدخل تاريخ شعبه بطلاً، ولكن هيهات له ذلك، فلن يتذكر منه الصرب سوى هذا المغفل الكبير الذي أحال بلده إلى رماد، وتركها تنزف فيما هو يخلف كل وعوده ويوقـّع على وثائق الإستسلام، باحثاً لنفسه عن مهرب فيما يشعبه يغرق في الظلام والهزائم السوداء المنكرة.
إن الحرب أو بتعبير أدق آثارها الفادحة ستبدأ في الظهور تباعاً، وستستمر لعشرات السنين، لأن الناس تحت القصف لا يدركون أية هوة سقطوا فيها، فسلامة الرأس آنئذٍ هي الفائدة العظمى، أما لاحقاً فيأتي الإنكسار واليأس والمعاناة الطويلة الأليمة، ومعها الشعور بالإشمئزاز من تاريخ يصنعه الوهم، ومستقبل يدمره انعدام الفهم.
رحيل جزار
14 مارس 2006
مع أنه لا شماتة في الموت ولو نزل بأعدى الأعداء، لأن الميت ينتقل إلى ما بين يدي الله سبحانه وتعالى المطلع على كل شاردة وواردة، إلا أن موت جزّار البلقان سلوبودان ملوسيفيتش – دون أن يلقى جزاءه العادل – على الأرض يدعو إلى التأمل في الحماقات البشرية التي تتزيّن بإسم الدين أو العرق، أو تتماهى مع نظائرها في التاريخ لتعيد الفضائع المدانة، وكأن الإنسان لا يتعلم من مآسيه، وإنما يعيدها كالفئران، فهو يدخل إلى المصيدة نفسها التي قضى فيها آباءه وأجداده، وتراه فرحاناً جذلاً وهو “كالطير يرقص مذبوحاً من الألم”، متوهماً أن أرواح الأسلاف تحييه من وراء حاجز الغيب، وينسى في غمرات التعصّب مبادئ الأخوة الإنسانية والتسامح الديني والتعايش الإجتماعي.
كان ملوسيفيتش نموذجاً رديئاً لهذه العيّنة من القادة، الذين تحرّكهم مشاعر الكراهية، فيوقظوها في نفوس العامة الذين يندفعون إلى المحرقة بحماس منقطع النظير، يتلذذون بذبح الآخر وإقصاءه والحجر عليه، كما فعلت محاكم التفتيش في الأندلس، وهؤلاء هم الذين يؤسسون بامتياز وبخبث لحروب الحضارات التي يُراد لها أن تعيد تجسيد أشد أنواع الفكر البشري سواداً، فيما يعرف بالعصور الوسطى الأوروبية، حين كانت جحافل الصليبيين تتدفق على فلسطين وبلاد الشام بمباركة الكنائس والبابوات والملوك، ضمن حملات محمومة، ولم يكن الفارق الحضاري بين الشرق والغرب متسعاً كما هو الحال الآن، لذلك تمكن القائد العظيم صلاح الدين الأيوبي من إلحاق الهزيمة النهائية بالغزاة….
ملحوظة: المقال غير مكتمل.