
في زاوية من المكتبة العامة بالمجمع الثقافي في أبوظبي توجد بعض كتب الشيخ الراحل علي الطنطاوي، وفي العديد من المرّات التي أرتاد فيها المكتبة أجد نفسي مشوقاً للذهاب إلى تلك الزاوية أسترق النظر إلى ذلك الأسلوب الفريد الناصع البيان، وإلى تلك الروح السمحة المحبة التي تتخلل ذلك البيان، وفي كل مرة أجد ما أقرأه جديداً كلّ الجدّة وإن مر على بعضه ما يزيد عن نصف قرن، ذلك أن الشيخ كان ابن عصره، يُصدر عن عقله، ويكتب بفهمه واجتهاده، ولم يكن أبداً مجرد ناقل أو مقلّد.
ولقد تابع ملايين الناس أحاديث الشيخ علي عبر برامجه الجماهيرية في التليفزيون السعودي، ومنها برنامجه الأسبوعي (نور الهداية) والذي استمرّ لأكثر من عشرين عاماً، وبرنامجه السنوي الشهير (على مائدة الإفطار)، والذي افتقده الجمهور في السنوات الأخيرة، فشعرنا جميعاً رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، أن قبساً من أنوار الشهر الكريم قد غاب، وخلّف في نفوسنا الحسرة والتطلع إلى مشاهدته، وذلك بغياب صاحب الوجه المنير واللسان العذب الشيخ علي الطنطاوي، والذي كان يمثل خير تمثيل وأبلغه لرجل الدعوة المسلم المستلهم لقول الله جل وعلا: {ادع إلى سبيل ربّك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}. ومن الذي قال فيهم الشاعر:
من الرجال المصابيح الذين هموا
كأنهم من نجوم حيّة
صنعواأخلاقهم نورهم من أي ناحية
أقبلت تنظر في أخلاقهم
سطعوا |
في أول يوم من شهر رمضان المبارك في إحدى السنين بمدينة جدة كنا مدعوين على مائدة الإفطار في قصر الشيخ عمر قاسم العيسائي العامر، وكان الجمع خليطاً من العلماء والمشايخ والشباب والعاملين في مؤسسات الشيخ وشركاته وبعضاً من أطفال الدار، وكانت الأحاديث شتّى مما يتناوله الناس ويتسلون به قبل الإفطار، حين ظهر الشيخ علي الطنطاوي على شاشة التليفزيون اجتذب أسماع الجميع وأبصارهم، حتى الأطفال، وظل من في المجلس يستمعون إليه كأن على رؤوسهم الطير، حتى انتهى من حديثه الذي لا يُمل، فأصبحت محبته هي حديث المجلس، حيث علق الشيخ عمر بقوله: “والله لك وحشة يا شيخ علي”، ثم متوجهاً إلى صغار القوم قائلاً: “إحرصوا يا شباب على متابعة عمكم علي، حتى تتفقهوا في دينكم وتعرفوا طرق الخير، وتزيد محبتكم لله وأهلكم”.
وقد أمّن الصغار على ذلك بهزّ رؤوسهم بالموافقة، وكانت عيونهم البريئة تشع بالسعادة، فقد كان علي الطنطاوي كما عبر الشيخ عمر بحق “عمّاً” للجميع، وأحد أفراد العائلة الموقـّرين في كل بيت يتابع برامجه على التليفزيون.
رحم الله الشيخ علي الطنطاوي وغفر له وأسكنه فسيح جناته، و… إنا لله وإنا إليه راجعون.