عندما تتحول الدولة إلى سجنٍ كبير، وسجان يفتل شاربه ويهوي على ظهر كل من هبّ ودبّ ليؤكد وجوده، ويطمئن إلى وضعه، فإن الآية تصبح مقلوبة، حيث يصبح المواطن هو المسؤول عن أمن الدولة، بدلاً من أن تكون هي المسؤولة عن أمنه، وتلك من عجائب الليالي اللواتي يلدن كل عجيب كما قيل.
أما عن المثل في العنوان “أحشَفَ وسوءُ كيلة”، فهو من مشاهير الأمثال العربية، حيث يقبل المواطن بـ “الحشف” وهو أسوأ أنواع التمر، مما تقتات به الحيوانات، ولكن البائع – الذي يشبه الدولة الجائرة في موضوعنا – لا يكتفي بذلك، بل يغش في الكيل والإخسار في الميزان، فيضيف إلى “بلطجة” الحَشَف جناية التطفيف في الكيل والإخسار في الميزان، وتلك – وأيمُ الله – من قواصم الظهر في أزمنة القهر.
تذكرت علي بن ناجي الغادر، أحد مشايخ اليمن الشهيرين، والرجل له من اسمه نصيب، ولكنه لم يكن يغدر في الظـَّهر، وإنما جهاراً نهاراً ووجهاً لوجه، وله في مذهبه أشعار سائرة، وأقوالٌ نادرة، وكان أول تمرّده على إمام اليمن أحمد بن يحيى حميد الدين، الذي عُرف بالدهاء والذكاء، فحاول اصطياد الغادر بأن كتب إليه أنه إذا قدم عليه فقد أقسم على المصحف أن لا يمسّه بسوء، ولكن الغادر كان أمكر، فأبرق إلى الإمام بإسم أحد عماله يخبره بصول الخائن “الغادر”، فكان رد الإمام: “صفـّدوه بالحديد وأرسلوه إليّ مخفوراً لينال جزاءه”، وجاء الرد على الإمام من الغادر نفسه الذي قاله له: “والله إنك لا عهد لك حتى لو بلعت المصحف”. وعلى كل حال فما لم يستطعه الإمام قد نفذه الحكم الماركسي في الجنوب (سابقاً)، حيث استضافوا الغادر ومعه أربعين من مشايخ اليمن، ونصبوا لهم خيمة للوليمة، فكانوا هم الوليمة، حيث حصدتهم الرشاشات من خارج الخيمة هم ومن حضر من القائمين على خدمتهم، ممن لم تكن حياتهم تساوي شروى نقير، في ظل “لا صوت يعلوا على صوت الحزب”.
كنت أقرأ موضوعاً عن موبوتو سيسي سيكو دكتاتور زائير، الذي انتهى ملوماً مدحوراً يبحث عن قبر لا تنبشه الغربان، حيثى روى سفير بلجيكي سابق في كينشاسا أن موبوتو كتب على نسخة أهديت إليه من كتاب (الأمير) الشهير لميكافيللي “يجب على سيد المكر الإيطالي أن يأتي إلى كينشاسا لتعلّم بعض الدروس”… ومن الواضح أن موبوتو كان فخوراً بمكره الذي دمّر شعبه.
أما ثالثة الأثافي فقد جاءت من العراق الذي يعاني أبناؤه الأمرّين من حصارٍ ظالم، ومن قهر صارم، وقد جاء في الأخبار أن العراقي الملكوم لا يستطيع تبديل سكنه داخل وطنه إلا بموافقة الأمن السياسي، وبألف تأشيرة من ألف جهة، لأن كل مواطن متهم حتى تثبت براءته، وهو معرض لسلسلة عقوبات تبدأ بالغرامات المالية، حيث الراتب لا يكفي لشراء طبق بيض، وتنتهي بالسجن.
ولا حول ولا قوّة إلا بالله.